أيا كانت أسباب الاحتجاجات المستمرة في السودان والجزائر فإن آثارها في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبل التحول السياسي في الدولتين. فمطالبة المحتجين في الجزائر برحيل النظام السياسي بالكامل وكذلك إصرار المحتجين في السودان على تسليم السلطة للمدنيين، تسببا في رفض إجراء أي مفاوضات مع القيادة الحالية في البلدين بشأن ترتيب انتقال السلطة. وهنا تتبين المعضلة التي تواجه المحتجين وقد تتسبب في تعثر مسيرة التحول الديموقراطي كما يأملون. فقدر من المواجهة مع القابضين على مقاليد السلطة مهم لتحقيق بعض المطالب، إلا أن الإصرار على استمرارها والاحتكام إلى الشارع ورفض أي حوار قد يأتي بنتائج عكسية بالنظر إلى حقيقة امتلاك طرفي المعادلة مصالح لن يفرط أي منهما بها كما أنهما يتمتعان بمصادر قوة سيعمل كل طرف على توظيفها للخروج من المواجهة بأقل الخسائر. ولكن يبقى الشعب الخاسر الأكبر بسبب تفويت فرصة الانتقال إلى نظام سياسي بديل يحقق التطلعات بسبب التعنت وتبني المعادلة الصفرية (أنا أربح والطرف الثاني يخسر) أو وفق تعبير آخر -إما نحن «الجماهير» أو هم «النخبة الحاكمة». هذا الموقف الحدي لا يمكن أن ينتج عنه تقديم تنازلات من أي من الطرفين والتي تعد شرطاً ضرورياً لنجاح المفاوضات. ما يجري اليوم في الجزائر والسودان هو في الحقيقة نوع من التفاوض، ولكنه تفاوض يقود إلى طريق مسدود والمسؤولية هنا تقع على النخب السياسية حاكمة ومعارضة، أما احتجاجات الشارع فليست سوى ورقة توظفها الأخيرة، لذلك فإن الكثير يعتمد على حسن توظيف هذه النخبة لورقة الشارع لتضمن تحقيق أهدافها ولكن ما يظهر حتى الآن أن هذا الشرط (حسن التوظيف) غائب لأسباب قد تتعلق بثقافة النخب السياسية العربية بشكل عام في التعاطي مع السلطة. فإذا كانت القيم السياسية لعامة الناس ليست متغيراً مهماً في الموقف من النظام السياسي بالمقارنة مع ما يعيشونه من أحوال اقتصادية واجتماعية أخرى كما يرى كثير من الدارسين، فإن القيم السياسية للنخبة تعد عاملاً في غاية الأهمية في تحديد مسار أي تحول سياسي؛ فالمنتمون لهذه النخبة (حكاماً ومعارضة) هم من سيدير عملية التحول، وفي حال افتقدوا قيمتي الثقة والعقلانية في سلوكهم السياسي، فإن مسار التحول سيكون صعباً جداً واحتمالات التعثر والانتكاسة تتزايد. ولذلك تتضح أهمية دراسة تجارب الانتقال السياسي والاستفادة منها وتبرز هنا تجربة الانتقال الديموقراطي في بولندا في نهاية الثمانينات التي فتحت الطريق أمام تحولات سياسية شاملة في منطقتي شرق ووسط أوروبا. الاحتجاجات ضد النظام السياسي في بولندا بدأت منذ السنوات الأولى لفرض النظام الشيوعي وبلغت ذروتها في السبعينات وانتهت إلى تدخل الجيش وفرض الأحكام العرفية لعدة سنوات وبعدها بدأت مسيرة تحول سياسي سلمي مستفيدة من التغيرات المهمة في الجار الكبير (الاتحاد السوفيتي) التي مهدت الطريق للأنظمة التابعة في شرق ووسط أوروبا لاختيار مسارها المستقل. سر التحول السياسي السلمي في بولندا والذي أصبح علامة فارقة في ما يعرف بموجات الانتقال الديموقراطي هو الحوار حيث نجحت النخبة السياسية بطرفيها الحاكم والمعارض من خلال جولات من جلسات الطاولة المستديرة في الاتفاق حول المسار الأفضل لإنهاء النظام الشيوعي والانتقال إلى نظام سياسي ديموقراطي يلبي رغبات الجميع دون إقصاء أو تهميش لطرف. الحوار بين ممثلي حركة التضامن (سوليدريتي) وممثلي النظام -بحضور مراقبين من الكنيسة الكاثوليكية التي تحظى بمكانة مهمة في المجتمع البولندي- حول طاولة مستديرة له رمزية مهمة جدا في مثل هذه المفاوضات فهي تعني المساواة وتلغي أي اعتبار لموازين القوة بين المتحاورين الذين أصبح همهم الخروج بحلول تحقق المصلحة المشتركة. أجريت المفاوضات بطريقة مهنية حيث قسم المشاركون إلى فرق عمل صغيرة وتم توزيع القضايا الخلافية بينهم وشملت كافة المسائل السياسية والاقتصادية والتنظيمية واستمرت شهرين انتهت إلى اتفاق كان من أبرز بنوده تحديد موعد لأول انتخابات حرة تنافسية أجريت في يونيو 1989 وانتهت بفوز ساحق لحركة التضامن وتخلي العسكر عن السلطة. لم تكن موافقة حركة التضامن على الحوار مع الجيش أمرا سهلا، حيث وجهت لها انتقادات واتهمت بتقديم التنازلات، إلا أن وعي قيادة الحركة وإدراكهم أن الاستمرار في المواجهة لن يحقق الهدف المنشود كان له أثر مهم في نجاح المفاوضات. ولا بد من الإشارة إلى أهمية وجود شخصية كارزماتية لضمان عدم تعثر عملية المفاوضات والانتقال السلمي للسلطة وهو ما ضمنته شخصية ليخ فاليسا زعيم حركة التضامن الذي فاز بأول انتخابات رئاسية مباشرة واستمر رئيساً لبولندا حتى 1995. ومن خلال نظرة سريعة على تعثر مسيرة التحولات السياسية التي شهدتها دول عربية منذ بدء احتجاجات الربيع العربي يتأكد غياب أمرين مهمين أثبتتهما التجربة البولندية وكافة تجارب الانتقال الديموقراطي في العالم وهما (1) وعي النخبة السياسية وإدراكها لشروط التفاوض ومن أبرزها النظرة غير الصفرية للعمل للسياسي (الجميع يكسب) و(2) الشخصية الكارزمية القادرة على كسب ثقة الجماهير. ومن بين أهم الدروس المتحصلة من تجارب الانتقال الديموقراطي الناجح (1) عدم الانشغال كثيراً بالماضي من باب المحاسبة والتوعد بالانتقام، (2) التعامل الواعي مع ورقة حشد الشارع، (3) تجنب المطالبة بإجراء تحولات جذرية سريعة (على سبيل ما يتعلق بتوزيع الثروة أو تغيير توجهات السياسة الخارجية)، (4) الاستعداد لتقديم التنازلات عند الحاجة، (5) مد الجسور مع عناصر السلطة المقتنعة بالتغيير، (6) الاستعداد للتعامل مع أصحاب المواقف المتطرفة ممن يرفع شعار (لا نرضى سوى بتغير جذري). أخيراً لابد من التنبه إلى دخول عامل جديد وخطير في عملية الانتقال السياسي لم يكن موجوداً في تلك التجارب ويتمثل في الدور الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي في التعبئة والتحشيد وما ترتب على ذلك من تقليص لسلطة النخبة في السيطرة على الشارع وتوجيهه لصالح إجراء مفاوضات مثمرة تصل بها إلى بر الأمان، الأمر الذي يضاعف من مسؤوليات النخبة المعارضة ويزيد من أعبائها ويحملها الدور الأكبر في نجاح أو فشل الانتقال السياسي. * كاتب وأكاديمي سعودي