كثر الحديث في تونس منذ أسابيع عن"المصالحة الوطنية". واللافت للنظر أن الذين بدأوا في التعبير عن هذه الرغبة هم جزء من الإسلاميين الذين غادروا صفوف حركة النهضة أو لا يزالون ينتمون إليها، ومنهم من دفع ثمناً غالياً بقضاء جزء مهم من حياته متنقلاً بين السجون التونسية. وبعد جدل عاصف عكسه بعض مواقع الأنترنت، خرجت قيادة الحركة من صمتها وأعلنت بدورها من لندن عن استعدادها لمد يدها إلى السلطة، وطي صفحة الماضي. وعلى رغم أنه لم يصدر عن النظام أي مؤشر قد يوحي باحتمال التفاعل مع هذه الرغبة في تنقية الأجواء السياسية، إلا أن أطرافاً من المعارضة الاحتجاجية بدأت تأخذ بجدية هذا التحول الذي طرأ على سياسة حركة النهضة، وما قد يترتب عنه من مفاجآت وتداعيات على مجمل الخارطة السياسية التونسية. لم يولد الحديث عن"المصالحة"من فراغ، وإنما جاء نتيجة عوامل عديدة محلية وإقليمية ودولية. فعلى الصعيد المحلي، هناك مشكلة المساجين السياسيين الذين حوكموا في مطلع التسعينات على إثر قرار السلطة بتصفية حركة النهضة. فبعد خمسة عشر عاما لا يزال حوالي 500 معتقل يعانون مرارة السجون، حيث عجزت قيادتهم عن إطلاق سراحهم، ولم تتمكن أطراف المجتمع المدني على الصعيدين المحلي والدولي من إقناع السلطة بضرورة غلق مثل هذا الملف الذي أضر كثيراً بسمعة تونس. في هذا السياق بدأ يتصاعد التململ داخل أبناء حركة النهضة، وانتهى الأمر بأن أقدم البعض على اختراق حاجز الصمت، ونقلوا الخلاف إلى العلن. وبدا واضحا أن هؤلاء اقتنعوا بأن إطلاق سراح المساجين لن يتم عن طريق ممارسة الضغط السياسي، والاستمرار في مهاجمة السلطة أو العمل على إسقاطها. فالمعادلات السياسية المحلية والدولية لا تزال تصب في صالح النظام رغم كل الانتقادات التي وجهت إليه ولا تزال. وبما أن لحظة التغيير السياسي الشامل الذي تدعو إليه بعض الأطراف، ومن بينها قيادة حركة"النهضة"لا تزال بعيدة، فقد رأى البعض من الإسلاميين، الذين أنهكهم طول الانتظار، أن تجاوز معضلة المساجين تمر حتما عبر تغيير العلاقة بالسلطة، أو على الأقل تغيير الخطاب بالانتقال من أسلوب المواجهة إلى أسلوب الطمأنة والدعوة إلى"المصالحة". ولا يستنكف بعض هؤلاء عن الإشارة إلى الاستعداد لتقديم تنازلات سياسية لصالح الحكم مقابل تصفية آثار المعركة الخاسرة التي اندلعت في مطلع التسعينات وأحرقت الأخضر واليابس. مرحلة صعود الإسلاميين أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فإن الحديث عن"المصالحة"في تونس يتنزل ضمن سياق يختلف كثيراً عن السياق الذي تمت فيه تصفية حركة النهضة وإخراجها من دائرة اللعبة المحلية. فالمرحلة الراهنة تشهد منذ مطلع القرن الجديد عودة قوية للحركات الإسلامية بشقيها العنيف والمعتدل. وهو ما جعل الحكومات الغربية تدرج موضوع مقاومة الإرهاب من جهة، وإدماج الحركات الإسلامية المعتدلة ضمن مشاريع التحول الديموقراطي من جهة أخرى، في مقدمة الأجندة الدولية. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على ما يدور من أحداث في المنطقة، للتأكد من أن المشهد أصبح فعلاً مختلفاً بشكل جوهري. ففي المغرب، يشكل حزب إسلامي الكتلة الرئيسية في البرلمان حزب العدالة والتنمية ، إضافة إلى الاعتراف قبل فترة وجيزة بحزب جديد لا يخفي توجهاته الإسلامية وهو حزب البديل الحضاري. وفي الجزائر، تشارك حركة حمس الإسلامية في الحكومة باعتبارها أحد أطراف التحالف الثلاثي الرئاسي الذي استطاع بفضله الرئيس بوتفليقة تحقيق نجاح كاسح في انتخابات تجديد ولايته لمرة ثانية. وفي ليبيا، تجري الاستعدادات لإطلاق سراح مساجين الإخوان المسلمين بعد محادثات تمت بين الطرفين. وفي مصر لم يكتفِ الإخوان بإطلاق مبادرة سياسية، لكنهم انخرطوا في محاولة الضغط السلمي لفرض عدد من الإصلاحات، من دون أن يدفع ذلك، حتى الآن - السلطة إلى الدخول في مواجهة أمنية شاملة. وفي العراق يحكم الإسلاميون الشيعة في البلاد. ويمكن مواصلة استعراض ملامح من الحضور الملموس وأحياناً القوي للإسلاميين في الأردن وفلسطين وسورية ولبنان والسودان. وفي كل هذه الدول، اختار جزء مهم من الإسلاميين مبدأ المشاركة السياسية السلمية، ودانوا بوضوح العنف الذي يمارسه غيرهم، ويحاول تنظيم القاعدة وتفرعاته أن يجرهم إليه. النظام وإسلاميو خارج الحدود هذا المشهد الإقليمي الجديد أخذه النظام التونسي في الاعتبار بطريقته. فقد عملت السلطة منذ سنوات على التكيف مع هذه المتغيرات بهدف محاولة عزل حركة النهضة حتى عن"حلفائها الموضوعيين". ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى نجاحها في إقامة علاقات جيدة مع إيران التي توقفت عن استضافة رموز حركة النهضة منذ فترة طويلة. وحصل الشيء نفسه مع السودان حتى قبل نشوب الخلاف بين عمر البشير وحسن الترابي. كما ربطت السلطة علاقة وثيقة بحركة"حمس"الجزائرية، حيث أصبح الأمين العام لهذه الحركة ضيفاً دائماً في الاحتفالات السنوية لذكرى السابع من نوفمبر. ومدت السلطة جسوراً مع حزب الله في لبنان، مما جعل قناة"المنار"تتجنب فتح أي مجال إعلامي للإسلاميين والمعارضة المعادية للنظام التونسي، وإن كانت في الآن نفسه تمتنع عن مدحه على غرار فضائيات لبنانية أخرى. كما حضر ممثل رسمي عن الحكومة التونسية في فعاليات آخر مؤتمر لحزب العدالة والتنمية المغربي. وهذه ليست سوى عينات تدل على أن السلطة أدركت بأن مصلحتها تقتضي التفاعل إيجابيا مع صعود الحركات الإسلامية الموجودة خارج حدودها بعيدا عن الاعتبارات الأيديولوجية، ولكن بطريقة تساعدها على تحجيم إسلامييها في الداخل وحرمانهم من أي دعم خارجي محتمل. "المصالحة"غير واردة في قاموس السلطة ترفض السلطة استعمال مصطلح"المصالحة"، ولا ترى أي موجب لذلك. وتصر على القول بأن حركة النهضة ليست حزباً سياسياً، وأن سجناءها ليسوا سجناء رأي وإنما هم"مجرمو حق عام". لكن مع ذلك لم يعد من المفيد للسلطة التمسك بنفس السياسة بعد مرور كل هذا الوقت وتوالي عديد المتغيرات. وعلى رغم أن النظام التونسي يعتبر نفسه غير معني بتصاعد المطالبة بالإصلاح السياسي، إلا أنه من غير المنطقي أن يبقى محتفظاً بهذا العدد الكبير من المعتقلين إلى أجل غير مسمى. وبناء عليه يتوقع أن تلجأ السلطة في الأسابيع أو الأشهر المقبلة إلى فصل البعد الإنساني عن البعد السياسي لهذه القضية، وذلك من خلال إصدار عفو رئاسي جماعي أو تدريجي على المساجين، دون الدخول في أي مفاوضات علنية تتعلق بتسوية أوضاع حركة النهضة. بمعنى آخر، لا يزال نظام الحكم يعتقد بأنه في موقع القوة وأنه صاحب المبادرة، وأن خصومه سواء من الإسلاميين أو بقية التنظيمات والعائلات السياسية المعارضة له بشدة ، ليسوا قادرين على فرض شروطهم وتغيير ميزان القوى في الوقت الراهن على الأقل. وبناء عليه فإن النظام سيواصل استثمار ورقة المساجين لتحقيق مكاسب سياسية، مثل أن تتخلى حركة النهضة عن خطابها التصعيدي السابق، وأن تتكيف مع مقتضيات الأمر الواقع بعد أن خسرت المعركة وأصبحت عاجزة عن تغيير المعادلات لصالحها. مخاوف وحسابات متباينة حذر الأمين العام للحزب الديموقراطي التقدمي المعارض دعاة المصالحة من الإسلاميين من"اعادة أخطاء الماضي حين فرطت المعارضة في زمام المبادرة للحكم وتخلت عن وحدتها وانبرت في منافسة محمومة بينها للتقرب منه أملا في الحصول على البعض من الحقوق والإمتيازات". واعتبر نجيب الشابي أن عزل قضية المساجين عن مسارها العام"من شأنه أن يضعف المسار الإصلاحي". وهذا الرأي يعكس مخاوف جانب من الأوساط الديموقراطية التي تخشى من أن يتحول ملف الإسلاميين إلى ورقة جديدة يستثمرها الحكم لصالحه، ويوظفها بطريقة تزيد من تشتيت هذه الأوساط، وشق إسفين بين الإسلاميين وبين الشق الاحتجاجي في المعارضة. في مقابل ذلك، يعتقد الإسلاميون بأنهم دفعوا ولا يزالون ثمنا باهظا نتيجة الاختلال الحاصل في موازين القوى. وباستثناء بعض الأطراف التي خبروها، فإنهم لا يثقون في العديد من مكونات المجتمع المدني التي لا تخفي معارضتها الشديدة لهم، وتخشى من عودتهم إلى الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية. والمشكلة التي تواجهها هذه الأطراف ذات الخلفية اليسارية أو الليبرالية العلمانية، أنها لم تحسن استثمار هذا الغياب القسري للإسلاميين طيلة المرحلة الماضية لتعيد تنظيم صفوفها وترميم"جبهتها الداخلية"بوضع حد لحالة التشرذم وتراجعها المستمر. ورغم أن هذه الأطراف قد التحقت بالداعين إلى إصدار عفو تشريعي عام، إلا أنها ترى في الإسلاميين"خطراً"و"عدواً استراتيجياً"، وبالتالي فإن المعركة الشاملة معهم مؤجلة إلى حين عودتهم بشكل من الأشكال. هذا الانقسام الحاد يلازم الساحة السياسية في تونس منذ السبعينات، ويحول دون أن تتشكل جبهة معارضة قوية وقادرة على أن تفرض نفسها كشريك في إدارة الشأن السياسي، وهو الذي يدفع حالياً بقسم من الإسلاميين إلى البحث عن حل معزول لملف مساجينهم. إن الأطراف السياسية الديموقراطية في تونس لم تدرك إلا أخيراً أن انفراد النظام بالإسلاميين لم يكن في صالحها، وأنه كان خطوة نحو الانفراد بها أيضا والحد من قدراتها. كما أن هذه الأطراف لا تقدر حجم النزيف والعجز الذين أصابا حركة النهضة بسبب ملف المساجين الذي طال أكثر من المتوقع. هذه الحركة التي فقدت كل أوراقها في وقت قياسي، نتيجة سوء إدارتها للعلاقة مع السلطة، وعدم حسن قراءتها سواء للواقع المحلي الجديد الذي أنهى مرحلة الحكم البورقيبي، أو لسلسلة المتغيرات الإقليمية والدولية التي توالت منذ إيقاف الجولة الثانية من الانتخابات الجزائرية، وتسارعت بعد غزو العراق للكويت. ومهما اختلفت التقييمات، فالمؤكد أن إطلاق سراح المساجين، ولو عبر دفعات ولاعتبارات"إنسانية"من شأنه أن يخلق حالة جديدة في تونس، ويكون بمثابة إزاحة الشجرة التي كانت تحجب رؤية الغابة الواسعة. إنه شرط لا بد منه لتحقيق انفراج سياسي طال انتظاره. كاتب تونسي.