استقللت العربة، كانت أشعة الشمس الربيعية الخفيفة تقوى شيئا فشيئا تضرب زجاج السيارة ثم تنعكس فوق وجهي وكل ما في الشارع ينزف رضاء وطيبة، كنت أغمض عيني أشرد في الفراغ الذي يتسع في داخلي، الزمن في (القاهرة) هو زمن خاص يختلف عن الزمن العام، في (القاهرة) يمكنك أن تعيش العمر أكثر من مرة، وتسترجع اللحظات مرات ومرات، تضع يدك على مفاتيح الزمن توقفه حينما تريد، فتحت الشباك قليلا ليصلني هواء بارد ممزوج بعبق (القاهرة)، أميل بجسدي وأتطلع إلى الأشجار التي تقف وحيدة وسط رياح الربيع الخفيفة والتي تتلاعب بها وبأغصانها، يوقظني صوت المذياع كأرض مشرع فمها للسماء، يتلو الأخبار المأسوية، تمتد يد السائق يحرك إبرته كأنه يريد أن يتخلص هو الآخر من سماع أنين العالم، يتوقف عند موسيقى حالمة بصوت (حليم)، (بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان المعبود) ويتحول القلب الاسفنجي مع الأغنية من ساعة رتيبة إلى طبل يضج بالرقص في غابة استوائية ويردد (ضحكتها أنغام وورود... هي الدنيا) أصل وجهتي في (شارع رمسيس) المزدحم بوسط القاهرة، أدخل إحدى قاعات معهد الموسيقى العربية، لا زالت مقتنيات موسيقار الأجيال (محمد عبدالوهاب) كما هي عندما تركها يوم وفاته في 3 مايو 1991 بالطابق الثاني للمعهد الأثري، هنا تشعر أنك داخل شقة «محمد عبدالوهاب» آلاته الموسيقية، البيانو والأورج والعود ومكتبه وكرسيه وساعة الحائط، والكرسي الهزاز الذي جلس عليه للمرة الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه، وتقويم الحائط الذي لم يقطع منه يوم 3 مايو الذي توفي فيه، مقتنيات المتحف تبرعت بها زوجة الموسيقار(محمد عبدالوهاب)، (نهلة القدسي) لدار الأوبرا والتي قررت بدورها وضع المقتنيات في معهد الموسيقى العربية، سألت نفسي كمعتوه لا شهادة له في المحاكم، ما الذي يمكنني أن أفعله غير ما يحدث لي، هل يلزمني قليل من الخيال لأفرح وقليل من الفرح لأتخيل، أجر عربة الروح وأذهب إلى مقهى شعبي في (حي الزمالك) جوار مكتبة (الديوان) ابتعت بعض الكتب، ثم ذهبت إلى المقهى، ما إن أقبلت على المقهى حتى رفعت أنفي لأشم رائحة مخلط عميق الرائحة، شعرت أن الفضاء قبلني، رائحة القهوة التركية بالهيل والقرفة في هذا المقهى المتواضع لا تعادلها نكهة قهوة في مقهى على (البسفور) أخذت مكاني كطفل وديع هادئ ينتظر من يطعمه في خجل، كل أمنية ثمينة أردت أن أضيفها لرجل عاش 65 عاما تحت خط الفرح تحققت لي اليوم، مكتبة تعج بما لذ وطاب من المنشورات الجديدة الطازجة، ومقهى شعبي على رصيف مدينة الحنين، كنت أشرب قهوتي وأنا أتصفح بعض مكتسباتي وأدخن غليوني بشراهة قطار نسي معالم محطته قبل أن ينتحر هذا اليوم بكامله ليمضي كعادته لمقبرة الزمان، اتصل بي الحبيب الشريف ناصر البركاتي وكان برفقته الوفي علي محرق، يدعوني لتناول العشاء في حديقة (فندق الماريوت عمر الخيام) كان الشجر في الحديقة أرواحا هائمة ترتطم بالأحاديث الخضراء، وكانت معظم الطاولات تمتلئ بالمرح، كانت البهجة تسري بين الجميع ببزخ، وأنت في تلك الحديقة تشعر بأن العالم ملكك وأن السعادة بئر لا يجف تدفقها، وحتى تكتمل القصيدة حدثنا الشريف ناصر البركاتي، السفينة المحملة دائما بكل تراث جميل وغريب، قصة هذا القصر والحديقة، قصة عاشقين أطاح بهما الهوى، (الخديوي إسماعيل) والذي أحب فتاة عندما كان في فرنسا، أصبحت فيما بعد، (إمبراطورة فرنسا) وحضرت لمصر بعد أن اكتسح البياض جميع خصلات شعرها، في افتتاح قناة السويس، وأنشد لها حافظ إبراهيم حين رأى شيب شعرها (ولقد زانك المشيب بتاج.. لا يدانيه في الجلال مدان) وبقية القصة لدى الشريف ناصر البركاتي، وانتهت القهوة، وانتهت الرحلة، وكان زمان ولا فاكر قصة حتعيد اللي كان ! * كاتب سعودي [email protected]