من بعد عمود مأرب، وقبة غمدان، وباب سمرقند، وبناء اصطخر، يأتي أشخاص متعالمون، بفكر منقبض، ليشطبوا على مجموعة من الكتب بغرض منعها، في تطبيق عملي ناقص لمنهج هيقل الذي يرى الوعي سابقاً للمادة. ينادون وهم يستعرضون سحنتهم العنيدة: عولوا على أنفسكم كي تفهموا! فيما بدا لهم أنه الحل الأمثل لطرد الأفكار الشريرة من الوجود، وغاب عنهم أن الخير المحض يقطع أسباب التفكر، ونسوا أو تناسوا أن هذا القرار المبني على وجهة نظرهم يلقي بظلال قاتمة على طالب المعرفة. الكتاب وعاء مليء يُفتح به المغلق، ومنجم تأمل يُشاهد به الغائب، وليس كياناً يُعبد ليتم هدمه درءاً للفتنة. والنفس البشرية مفطورة على القراءة، وتزداد شغفاً عند منعها من كتاب ما بحجة أنه يفوح بالمغالطات والانحرافات، وهو شغف محمود لأن وصول شخص لقناعة منع كتاب بعد الاطلاع عليه، لا يُلزم الآخر بعدم البدء في نفس التجربة، فربما يُرغِّبه في الكتاب ما زهَّد غيره به. إن العلاقة بين المنع والاقتناء علاقة عكسية، لأن فضول البحث عن المعرفة يزداد كلما صعب الوصول إليها، وإذا لم يستطع إليه سبيلاً، فمن الأرجح أنه سيغوص في الجهل، فيُجهِد عقله في اللاوعي ويُتعِب جسده في العدم، مما قد يدفعه لحنق اجتماعي يتفرس به من يختلف معه في غير ود، وقد يتمادى به الحال إلى نشر الشر في الوجود لدرجة يستحيل معها احتواؤه أو حتى الإفلات من تبعاته، فالناس أعداء ما يجهلون.