ليس للتنمية لسان فتشتكي من تضارب التوجيهات وتداخل التوجُّهات من مختلف الجهات الحكومية تبعاً للأنظمة والإجراءات وتباين القراءات والتطلعات. فهل تسمع التنمية كلام مسؤول البلدية أم مسؤول الصحة أم تنفذ كلام مسؤول السياحة أم مسؤول التعليم؟ أم تتقيد بتعليمات مسؤول المياه والبيئة والزراعة أم مسؤول الثقافة ومسؤول التجارة أو مسؤول العمل؟ هل تنتهي التنمية بعد كل الجهود ومع كل الميزانيات إلى تشوهات وكتل أسمنتية ومشاريع بلا صيانة ولوحة قبيحة أسهم الجميع برسمها دون رؤية موحدة؟ ما أهداف التنمية؟ هل هي أهداف اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية؟ هل تسعى التنمية لتحقيق رضا الجمهور أم لتحقيق رضا المسؤول؟ هل تسعى التنمية لتحقيق هوية وثقافة المجتمع والإنسان والمكان والزمان؟ هل للجمال مكان في أهداف التنمية؟ هل تهتم التنمية باستقرار المجتمع وتوازنه واتزانه وتجنيب المجتمع المخاطر؟ أم أن التنمية تسعى كذلك لاستغلال الفرص المتاحة؟ هل تأخذ التنمية بالاعتبار المنافسة العالمية من خلال تشجيع وتحفيز الخلق والإبداع والابتكار بين الشباب؟ هل تأخذ التنمية في الاعتبار احتياجات بعض فئات المجتمع مثل الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة؟ إن التنمية هي كل ما تقدم، وغيره، مما اشتملت عليه رؤية 2030 وبرامج التحول المنبثقة عنها، فإذا كانت رؤية 2030 رسمت الأهداف ووضعت البرامج، فإن آليات التنفيذ بحاجة لوقفة على مستوى المناطق الإدارية الثلاث عشرة، خاصة أنها النهايات الطرفية لأغلب برامج الرؤية 2030. والتي بدأت تؤتي ثمارها وتلامس أرض الواقع. من الملاحظ أن هناك بعض المشاريع التنموية يتم تحقق ما نسبته 95% ثم يتم تركه أو إهمال ال 5% المتبقية من هذا المشروع، إما بقصد أو دون قصد. هذه ال 5% تتسبب بتشويه ال 95% وتشويه ما حول المشروع ويصبح المشروع عبئاً على المجتمع وعلى التنمية وعلى انسيابية وتناغم البنية التحتية وعلى هوية المكان وثقافة الإنسان وعلى الشكل العام، ويصبح خادشاً للذوق العام والجمال. هذه ال 5% ناتجة عن غياب التنسيق في التفاصيل بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية بالمشاريع، ولا يلام القائم على تنفيذ مشروع بعينه لأن هذا المشروع مرتبط رأسياً بإحدى المؤسسات الحكومية، لها أنظمتها وميزانيتها وإجراءاتها فلا يرى المنفذ إلا ما يطلبه منه هذا المسؤول في مؤسسته الحكومية. قد يقول أحدهم أن التنسيق موجود وقائم بين الأجهزة الحكومية من خلال لجنة أو مجلس، نعم قد يكون التنسيق موجوداً لكنه تنسيق في العموميات، لكن النهايات تترك غير متناغمة مع نفسها ومع ما حولها، والأمثلة شاهدة على ما أعنيه في الجسور والمستشفيات والمدارس والحدائق وما يسمى بالأشكال الجمالية والمباني الحكومية والسكنية والتجارية وتشجير الشوارع وتوزيع الخدمات على الأحياء وغياب الثقافة المحلية وتشويه المعالم السياحية والآثار من خلال ترميم تلك المواقع بشكل غير مريح وغير مهني. من هنا، أرى ضرورة إحداث وظيفة «مخرج» في كل منطقة لضبط إيقاع المشاريع تنموياً وجمالياً، ويراعي الإيقاع العام لتلك المشاريع توزيعاً ووظيفةً وشكلاً وثقافةً محليةً، تقع تحت مسؤولية هذا «المخرج» والجهاز الذي معه كل مشاريع المنطقة أو المدينة المناطة به. من المهم أن يتمتع هذا «المخرج» بثقافة وذائقة عالية بالإضافة لخلفية مهنية معتبرة. طبعاً ما أقصده ليس بالضرورة أن يكون مخرجاً سينمائياً أو تلفزيونياً بالمعنى الحرفي، إنما المقصود أن يلعب هذا «المخرج» دور المخرج ويتمتع بحرية وصلاحيات المخرج دون قيود الأنظمة والإجراءات والبيروقراطية الحكومية المعتادة. هو المسؤول الأول عن الشكل العام واللمسات النهائية والرؤية الأخيرة للمنطقة أو المدينة والقرية. مطلوب ارتباط أفقي وليس رأسياً لكافة المشاريع في المنطقة، أي منطقة وكل منطقة. كل هذه المشاريع يجب أن تعزفها يد واحدة لتخرج المعزوفة النهائية متناغمة ومنسجمة من تحت يد قائد الفرقة «المخرج»، ولتخرج اللوحة النهائية متكاملة الألوان ومعبرة دون نشاز أو تشوهات من تحت يد رسام واحد «مخرج». ليس بالضرورة أن تكون التنمية في الجوف نسخة عن التنمية في مكةالمكرمة أو نجران، وليس بالضرورة أن تكون التنمية في المدينةالمنورة نسخة عن التنمية في حائل أو القصيم. فلكل منطقة ومدينة وقرية تاريخها وإمكاناتها الطبيعية وتحدياتها البشرية التنموية وفرصها في الابتكار والخلق والإبداع. وهذا ما يحتم التفكير الجدي باتخاذ ميزانيات المناطق خياراً بديلاً فعلياً عن ميزانيات القطاعات للاستجابة الناجحة لتطبيق برامج الرؤية. * كاتب سعودي [email protected]