عندما كنت في «تونس» كان الوسط الأدبي يتناقل موت الكاتب والأديب «نضال غريبي» منتحراً في منزله بمعتمديه سيدي عمر بوحجله بولاية القيروان عن عمر يناهز ال32 عاماً بعد أن احتشى قلبه بالقار والقلق والتمزق اليومي بين المثل العليا التي ملأت شبابه ومقتضيات الحياة الواقعية، وبعد أن تعب من انتظار حياة حقيقية، وبعد أن عاش كغيره موجة البطالة التي اكتسحت صفوف «حاملي الشهادات»، كما باتوا يسمونها هناك، وأصبحت الشهادة التي حصل عليها لا تتعدى كونها قرطاساً أنيقاً لا يسمن ولا يغني من جوع، الكل اتفق على تمدده كما هو، دون أن يمس من أحد غيره في استرساله الأبدي ودون ندم، أغلق أوردة دمه لتدهم وجهه وتهز طوله وتطفئ زر قلبه، سحب شريط عمره من نحره، تاركاً كل شيء بلا أسف، من فرشاة أسنانه إلى آخر حذاء اشتراه بعد أن كاد يقتل البائع كمداً، استلقى على محفة الزمن القصير المحسوب بالومضة، كتب في همسة وداع في تلك الصباحية الربيعية وابتسامة مسمومة فاترة على شفتيه تعلن هذا الوداع، لا أحد يعلم مستوى خسائره حتى يخلص من قراءة رسالته الموجعة والتي يقول فيها «أسأل نفسي من أنا ؟ ثم أهرب من المواجهة، لأنني أعرف أنني سأندم إذا ما أجبت! أروغني لأستنكر، من ذا الذي يسأل ؟ فأغضب لنفسي وتغضب مني لترحل عني، لم أعد كما كنت، هذا الصباح، لم أجدني، واختفت رائحتي مع أول سيجارة صباحية بلا طعم، فتحت روايتي المفضلة فوجدتها فارغة من العناوين، خفت، نزلت مسرعاً إلى الشارع وسألت عني، قالوا لي مرت من هنا عارية جميلة، ككل مرة تهرب منك، حينها توقفت، وأنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت، ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة، ما أبخس ثمنها لكننا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دوماً بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها، وأضاف الغريبي، نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى في الخضر غير يابسه حتى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبتي، الذين رغم تواضعي يظنون أنني عيسى، فإذا ما صدقوا ما ادعوا، اختلط عليهم الأمر، فأصبحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهم الوغى، غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعاً إذا تظنون بموتي أنني أناني، لكنني في الحقيقة أبعد ما أكون عن الأنانية، دققوا في التفاصيل، لو كنت كما تدعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنني أعلم علم اليقين أن عائلتي المسكينة الفقيرة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن معي في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدعون لكنت رميت نفسي أمام سيارة على عجل أو من فوق بناية عالية، لكن حرصاً مني أن لا تتلف أعضائي التي أوصي بالتبرع بما صلح منها، سادتي، أحبتي، عائلتي المضيقة الموسعة، أوصيكم بأنفسكم خيراً، وبأولادكم حباً، أحبوهم لأنفسهم، لا تحبوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، كونوا شديدي الحرص في ذلك، فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة، علموا أولادكم أن الحب ليس بحرام، وأن الفن ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب، الساعة الآن الرابعة صباحاً من السابع والعشرين من مارس ثمانية عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعين وأربعة أشهر واثنتين وثلاثين سنة، أحبكم جميعا دون استثناء». وتوقفت عجلات السير في عروق «نضال»، استلقى على رصيف حياته بلا نفس، حافياً، نائماً على أرض أرهقته وسخرت منه ومنا، أنهى إقلاعه بسرعة نفاثة، ذهب مودعاً برسالة خرجت من صدره بنفس محتضر وبكاء غائر دون أن ينظر إلى الوراء، ليتك «يا نضال» وضعت جوالك في يدك حتى نسألك متى تعود! *كاتب سعودي [email protected]