قال ابو العباس محمد بن يزيد المبرد: ذكرت للمتوكل منازعة جرت بيني وبين الفتح بن خاقان في تأويل آية، وتنازع الناس في قراءتها، فبعث إلى محمد ابن القاسم - وكانت إليه البصرة- فحملني إليه مكرماً. فلما اجتزت بناحية النعمان بين واسط وبغداد، ذكر لي أن بدَير هرقل جماعة من المجانين يعالجون، فلما حاذيته دعتني نفسي إلى دخوله؛ فدخلته ومعي شاب ممن يرجع إليه في دين وأدب، فإذا أنا بمجنون من المجانين قد دنا إلي، فقلت: ما يقعدك بينهم، وأنت بائن عنهم؟ فكسر جفنه ورفع عقيرته وأنشأ يقول: إن وصفوني فناحل الجسد أو فتشوني فأبيض الكبد أضعف وجدى وزاد في سقمي أن لست أشكو الهوى إلى أحد وضعت كفي على فؤادي من حرّ الأسى، وانطويت فوق يدي آه من الحب آه من كبدي إن لم أمت في غد فبعد غد كأن قلبي إذا تذكرهم فريسة بين ساعدي أسد فقلت: أحسنت، لله درك! زدني، فأنشأ يقول: ما أقتل البين للنفوس! وما أوجع فقد الحبيب للكبد! عرضت نفسي من البلاء لما أسرف في مهجتي وفي جلدي يا حسرتي أن أموت معتقلا بين اعتلاج الهموم والكمد فقلت: أحسنت، لا فُضَّ فوك! زدني، فأنشأ يقول: الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبثُّ ما أجد نفسان لي: نفس تضمنها بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها صبر، وليس يعينها جلد وأظن غائبتي كشاهدتي فكأنها تجد الذي أجد فقلت: والله لقد أحسنت، فاستزدته، فقال: أراك كلما أنشدتك استزدتني، وما ذاك إلا لفرط أدب، وفراق شجن، فأنشدني أنت أيضاً، فقلت للذي معي: أنشده؛ فأنشد يقول: عذل وبين وتوديع ومرتحل أي العيون على ذا ليس تنهمل؟ تالله ما جلدي من بعدهم جلد ولا اختزان دموعي عنهم بخل وددت أن البحار السبع لي مدد وان جسمي دموع كلها همل وأن لي بدلاً من كل جائحة في كل جارحة يوم النوى مقل لا در در النوى لو صادفت جبلاً لانهدَّ منها وشيكاً ذلك الجبل الهجر والبين والواشون والإبل طلائع يتراءى أنها الأجل فقال المجنون: أحسنت! وقد حضرني في معنى ما أنشدت إليَّ شعر، أفأنشده؟ قلت: هات؛ فأنشأ يقول: ترحلوا ثم نيطت دونهم سجف لو كنت أملكهم يوماً لما رحلوا يا حادي العيس، مهلا كي نودّعها رفقاً، قليلاً، ففي توديعها الأجل ما راعني اليوم شيء غير فقدهم حتى استقلت وطال الدهر، ما فعلوا فقال الفتى الذي معي: ماتوا، فقال المجنون: آه، آه! إن ماتوا فسوف أموت؛ وسقط ميتاً، فما برحت حتى غسل وكفن؛ وصليت عليه ودفنته. ووردت سُر من رأى، فأدخلت على المتوكل؛ فسئلت عن بعض ما وردت له فأجبت، وبين يدي المتوكل البحتري الشاعر؛ فابتدأ ينشده قصيدة يمدحه بها، وفي المجلس أبو العنبس الصَّيمري فأنشده البحتري: عن أي ثغرٍ تبتسم وبأي طرفٍ تحتكم حسن يضيء بحسنه والحسن أشبه بالكرم ياباني المجد الذي قد كان قوّض فانهدم اسلم لدين محمد فإذا سلمت فقد سلم نلنا الهدى بعد العمى بك والغنى بعد العدم فلما انتهى مشى القهقري للانصراف، فوثب أبو العنبس؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ تأمر بردّه، فقد - والله - عارضته في قصيدته هذه! فأمر برده، فأخذ أبو العنبس ينشد: من أي سلح تلتقم وبأي كف تلتطم أدخلت رأس البحتري أبي عبادة في الرحم ووصل ذلك بما أشبه من الشتم، فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه، وفحص برجله اليسرى، وقال: يدفع إلى أبي العنبس عشرة آلاف درهم؛ فقال الفتح: يا سيدي، البحتري الذي هجى وأسمع المكروه ينصرف خائباً! قال: ويدفع إلى البحتري عشرة آلاف درهم، قال: يا سيدي، و هذا البصري الذي أشخصناه من بلده لا يشركهم فيما حصلوه؟ قال: ويدفع إليه عشرة آلاف درهم! فانصرفنا كلنا في شفاعة الهزل، ولم ينفع البحتري جده واجتهاده وحزمه. ثم قال المتوكل لأبي العنبس: أخبرني عن حمارك ووفاته، وما كان من شعره في الرؤيا التي رأيتها! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ كان أعقل من القضاة، ولم يكن له جرية ولا زلة، فاعتل على غفلة، فمات منها، فرأيته فيما يرى النائم فقلت له: يا حماري ألم أبرد لك الماء، وأنق لك الشعير، وأحسن إليك جهدي؟ فلم متَّ على غفلة! وما خبرك؟ قال: نعم! لما كان في اليوم الذي وقفت على فلان الصيدلاني تكلمه في كذا وكذا، مرت بي أتان حسناء، فرأيتها فأخذت بمجامع قلبي فعشقتها واشتد وجدي بها، فمت كذا متأسفاً. فقلت له: يا حماري؛ فهل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم، وأنشدني: هام قلبي بأتان عند باب الصيدلاني تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان وبخد ذي دلال مثل خد الشنغراني فبها مت ولو عش ت إذن طال هواني فقلت: يا حماري، فما الشنغراني؟ فقال: هذا من غريب الحمير؟ فطرب المتوكل وأمر الملهين والمغنين أن يغنوا ذلك اليوم بشعر الحمار، وفرح في ذلك اليوم فرحاً وسروراً لم يُر مثله، وزاد في تكرمه أبي العنبس وجائزته.