سنوات قبل إعلان بريطانيا انسحابها من منطقة الشرق الأوسط وإعلان استقلال العراقوالأردن، طلبت بريطانيا في رسالة عاجلة من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- السماح لها بنقل قواتها من مستعمرتها شرق الأردن إلى مستعمرتها في العراق. استدعى الملك عبدالعزيز مستشاريه، وطلب منهم إبداء رأيهم فيما وصله من طلب، لم يوافق المستشارون، إلا أن الملك عبدالعزيز كان له رأي آخر سيؤتي نتائجه فيما بعد للسعودية وبشكل يدهش الجميع بمن فيهم الإنجليز. الملك الداهية نظر إلى مستشاريه قائلاً: لقد قدرني الإنجليز، واستأذنوني في نقل قواتهم، على الرغم من إمكاناتهم الهائلة وقوة جيوشهم وقدرتهم على الدخول إلى أراضينا والخروج منها دون أن نعلم. طلب الملك من كاتبه الرد بالتالي: إلى حكومة بريطانيا العظمى.. ليس لدينا مانع من نقل قواتكم بشرط الدخول من أراضينا في النقطة الحدودية الفلانية، والخروج من أراضينا عبر النقطة الحدودية الفلانية. مرت السنوات وقررت بريطانيا رسم حدود العراقوالأردن مع المملكة العربية السعودية، فقال لهم الملك عبدالعزيز لقد رسمنا حدودنا معكم منذ زمن طويل، لقد أرسلت لكم جواب السماح بنقل قواتكم عبر أراضينا وفيه النقاط الحدودية التي تعبرون من خلالها ووافقتم حينها ولم تعترضوا، وبذلك رُسِمتْ حدود المملكة بإرادة الملك الداهية الذي تعامل مع الإنجليز بنفس مستوى دهائهم المعروف. عندما التقى الملك عبدالعزيز مع تشرشل في مصر العام 1945 كان يعلم أن نجم الإنجليز كقوة عظمى بدأ يأفل، ولذلك بنى علاقة إستراتيجية مع الأمريكان، لكنه احتفظ بعلاقات متينة مع الإنجليز ولم يخسرهم أبداً لتحقيق مصالح بلاده العليا. بعد 73 عاماً من لقاء الملك عبدالعزيز مع تشرشل يلتقي اليوم البيتان الملكيان العريقان في هذا العالم «السعودي والبريطاني»، بشقيه السياسي والملكي. من هنا تأتي الأهمية الكبرى لزيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في ظل تحولات وإعادة تموضع ليس في الشرق الأوسط المتعب والمنهك فحسب، وإنما في العالم أجمع. الأمير محمد يتعامل مع مصالح المملكة كما فعل المؤسس تماماً، بنفس الوضوح وبنفس الدهاء، مصالح المملكة العربية السعودية هي العليا دائماً وأبداً، والعلاقات مع الحلفاء مستمرة، ويد الرياض ممدودة لمن يحترمها ويتفهم أولوياتها. يجب ألاّ ننسى أن بريطانيا ثاني أكبر مستثمر وثاني أهم مزود للسلاح للرياض، ولولا يقينها أن المملكة دولة مستقرة وذات اقتصاد حيوي لما استمر ذلك، والسعودية بوجهها الجديد ومشاريعها المستقبلية التي يقودها «المصلح محمد بن سلمان» في نيوم والبحر الأحمر وإدراج أرامكو ستجعل من الاقتصاد رافعة كبيرة للعلاقات، خاصة أن بورصة لندن أبدت رغبة كبيرة في الاستئثار بحصة من الطرح الذي سيغير وجه الاقتصاد في المملكة والعالم. هناك إضاءات مهمة في الزيارة يجب الالتفات إليها وماذا تعني سياسياً وإستراتيجياً! أولاً: بالتوازي مع المباحثات والنشاطات السياسية والاقتصادية المهمة، سيلتقي الأمير محمد بن سلمان بالملكة البريطانية اليزابيث الثانية، وهذا في حد ذاته لفتة ترحيب غير مسبوقة تدل على أهمية الضيف الكبير، إذا علمنا أن الملكة لا تستقبل في العادة بقصرها خلال السنة الواحدة إلا ضيفين فقط من زعماء العالم، إضافة إلى أن ولي العهد الأمير تشارلز سيقيم حفل عشاء كبيراً. ثانياً: كتابة وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون مقالاً عن الأمير عشية زيارته عنوانه «المصلح محمد بن سلمان»، عبر فيه عن إعجابه ودعمه للسياسات التي يتخذها ولي العهد خدمة لشعبه وبلاده، مع ملاحظة الخلفية الثقافية للوزير ذي الميول المحافظة في سياساته وآرائه، ولولا قناعته ويقينه بأن مستقبل المنطقة يكمن في دعم الإصلاحات التي يقودها الأمير لما كتب ذلك. ثالثاً: اختيار الأمير محمد العاصمة البريطانية كأول محطة غربية يصلها بعد توليه ولاية العهد، ليست مصادفات، بل هي تأكيد على أن السعودية دولة مؤسسات ذات سياسات عميقة ومتجذرة منذ المؤسس وحتى اليوم. massaaed@ [email protected]