يؤلمني كثيرا وأنا أتحدث إلى بعض المبتعثين أو مع أشخاص لم يغادروا أرض الوطن، وأجده استبدل لغته مفتخرا بوجود بديلا من الإنجليزية فتجده يقول «اليوم عندي ميتنغ» «وربما سنذهب للغداء في أي ريستورانت» وأحيانا أخرى يسألك «كيف الكدز؟»، لا أعلم هل عجزت العربية لغة المعجزات عن الإتيان بلفظ بديل لمثل هذه السذاجات اللغوية؟ أم أنها لغة عقيمة لا تتوافق مع العقل العصري؟ الجواب ما قاله حافظ إبراهيم -رحمه الله- حينما قال: وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آيٍ به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماءٍ لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي نعم لم ولن تعجز اللغة العربية يوما في أن تصف حتى ما لم تصفه لغة في العالم ليس تعصبا للغة العربية ولكنه الحق حتى على لسان المستشرقين إبان سقوط طليطلة عام 1085 حيث بدأت بوادر تبعث إلى دراسة اللغة العربية وتعلم مكنونها بالأخص عندما نادى رامون لول أحد رواد الاستشراق بتعلم اللغة العربية وذلك في عام 1316 ثم بدأ الحراك الدؤوب نحو العربية تعلما وتعليما. أيها المتشدق باللغة الإنجليزية وبمصطلحاتها ظانا منك بأنك، بلغت الرقي والحضارة بذلك، اعتذر لك بأنك لم تفقد مصطلحا لغويا من العربية بل فقدت هويتك حينما صهرتها في لغة أكاد أجزم أنك لا تصمد في الحديث بها لمدة تتجاوز الأربع دقائق (لتدخل في متاهات الأصوات وبنيوية التراكيب والأسلوبية والتقديم والتأخير). إلا توجد في العربية بدائل للمفردات الإنجليزية التي استعملها البعض في السياقات المذكورة آنفا مثل «اجتماع» و«مطعم» و«الأبناء»؟ أم هو إبراز العضلات أو الحالة الاجتماعية وعمق الثقافة الذي يعمد له كل من فقد هويته ليبحث عن هوية أخرى تتقبله، إنه الانسلاخ من الجلد، إنه الإهمال حين فقدنا لغتنا التي كانت تشد لها الرحال للعلم ولم ولن تعجز وإنما العجز في أهلها حينما أهمولها تحدثا وكتابة وأصبح من يتحدث العربية بدون رطانة موضعا للسخرية. مما أوثر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: «ارشدو أخاكم فإنه ضل»، ومن القصص الجميلة أن عمر رضي الله عنه مر على قوم يرمون فأساؤوا الرمي فقال: بئس ما رميتم! قال بعضهم: إنا قوم متعلمين، فقال رضي الله عنه (إساءتكم في لحنكم أشد من إساءتكم في رميكم). واللحن هنا قد يكون وفق تغيير في النظام الصوتي أو الحرفي وليس في اختيار لمصطلح جديد... إذا ماذا سيقول لمن يقول «ووتر» بدل من ماء؟ إنها العربية ليست تعصبا ولكن اللغة التي فرقت حينما أطلقت على النبتة ذات الرائحة الطيبة بأنها «فاغية» وإذا استعملت النبتة للعلاج أصبحت «عقاراً» وإن كانت بشوك فهي «عضاه» وإن كانت بلا شوك فهي «سرح»، إنها العربية التي أطلقت مصطلح «مراهق» للشاب و«معصر» للفتاة حتى إنها اهتمت بحركات الكائنات إجمالا وتفصيلا حينما أطلقت «الربوض» للغنم و«البروك» للإبل و«الجثوم» للطير وعبرت حتى عن «خنان» الدواب وفرقته عن «زكام» البشر ووصفت الطريق بأن فيه «وعورة» إذا كان مفضيا لجبل وفيه «وعوثة» إذا كان يشق في الرمل وهي العربية التي وصفت العطر بأنه «ملاب» إذا كان سائلا وبأنه «كباء» إذا كان جامدا وهي العربية وبفخر حينما أطلقت على الكأس «كأسا» إذا كان فيه شراب وأنه بدون شراب لا يعدو كونه «زجاجة» وبأن السائل (اللعاب) إذا كان في الفم فهو «رضاب» فإذا غادر الفم فهو «بزاق». لا أعني بذلك إهمال تعلم اللغات الأخرى ولكن لا تجعل أبناءك ينغمسون في اللغة الأخرى ويؤمنون بأنها الأفضل وأنها لغة العلم والإنتاج والصناعة فليست اللغة من قام بالإنتاج والصناعة وما إلى ذلك عزيزي وإنما هم أهل اللغة. * أكاديمي وباحث، جامعة أم القرى [email protected]