بينما يستعد السعوديون لاستقبال واقع جديد في حياتهم يقوم على ما أحدثته التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجديدة، وبينما تتجه مؤسسات الدولة نحو بناء وعي جديد وبث ثقافة جديدة، يتأهب الحركيون للرمي بآخر أوراقهم: التشغيب على الدولة وعلى المؤسسات. هذه الورقة في الحقيقة ليست جديدة على الإطلاق، وسبق أن تم استخدامها أكثر من مرة، وتتمثل في محاولة تخويف المجتمع من قرارات الدولة ومن توجهاتها الجديدة التي تتطلبها المرحلة، وليس الترفيه إلا مثالا واحدا على ذلك. إنما لماذا يحظى الترفيه وتحظى أنشطته بكل هذا الاهتمام؟ فالسبب في ذلك يعود لأنه يتداخل مع ما ظلت العامة تستمع إليه على أنه محرم وغير جائز ولم تكن ثمة قدرة على الرد ولا على خوض نقاشات بشأن ذلك. نشأ بعض السعوديين على تحريم الموسيقى والأغاني والاختلاط وكشف الوجه وغيرها من القضايا، ولأن للتدين سلطة عليا في ثقافة المجتمع فقد كان التسليم بتلك القضايا واقعا على مستوى الأفكار طبعا وليس على مستوى الممارسة. انشغلت التيارات الحركية بمواجهة كل فكرة جديدة كانت تقدم رأيا فقهيا مختلفا في تلك القضايا، ذلك أن شيوع رأي فقهي جديد ومختلف من شأنه أن يهدد تلك السلطة الاجتماعية لهم، وأن يلغي الاستماع الشعبي العام لتلك الآراء وهي تردد على المنابر وفي الوعظ وفي خطابات الإنكار التي يطلقون صيحاتها مع كل جديد على مستوى الأحداث والأفكار. يتم ذلك التشغيب في قضايا مثل الترفيه لأن بقية القضايا الاقتصادية مثلا ليست قضايا شعبية ولا يحمل العامة في أذهانهم موقفا مسبقا منها، والقضايا السياسية مثلا يمنعهم الخوف من الخوض فيها إلا حين تقترب أكثر منهم وتصبح جزءا من خسائرهم، كما حدث إبان أحداث ثورة الثلاثين من يونيو التي أطاحت بحركة الإخوان المسلمين في مصر وبالتالي في المنطقة. يظن البعض أن الحركيين لا يتعلمون من تجاربهم وأنهم طالما رفعوا أصواتهم إنكارا وتحذيرا من كثير من المستجدات ثم عادوا بعد ذلك وصمتوا عنها حين شاهدوا إقبال الناس عليها، لكن الواقع أن التأثير بالنسبة لهم ليس الغاية ولا تكمن قضيتهم في إقناع العامة بالانصراف عن أمر ما لكنها تكمن في استثمار كل حدث يمكن استثماره للتشغيب على الدولة والمؤسسات، وهذا أحدث أبرز الأساليب التي تساعد على بناء موقف سياسي من الدولة؛ في ظاهره أنه موقف شرعي ينطلق من الغيرة على الدين والشرع ولكنه في الواقع أداة مهمة للاستقطاب والتجنيد الفكري الذي يعلي من شان الإنكار على الدولة وبالتالي يصنع لها خصوما يمثلون في ما بعد جنودا للمواجهة وبث خطابات الكراهية وتوسيع دائرة الإنكار. أفضل أشكال المواجهة هي تلك التي تأتي من الناس؛ الناس التي باتت أقل حفاوة وقبولا لمن يستميت لإنكار حفلة غنائية هنا أو مهرجان فني هناك مهما كانت الأساليب المصطنعة في ذلك كمحاولة الزج بالحرمين الشريفين أو ما يحدث من حرب في اليمن. الرد الأنسب من المؤسسات الحكومية هو أن تواصل خطواتها دون أن تنشغل بالرد أو التوضيح أو النفي لأن وضع اعتبار ولو يسيرا لفئة وظيفتها الرفض الدائم والممانعة المستمرة على حساب الشريحة الكبرى المتعطشة لهذا الواقع الجديد لن يجدي نفعا.