ذات طرب، كان محمد عبده يتألق بتنقلاته بين كل الألوان اللحنية العربية، شمالا وشرقا وغربا، وجنوبا بالذات. وفي خضم أغنية ما لم أستطع مقاومة لساني الطويل، وقلت له: أليس هذا اللحن هو الجينة اللحنية لفلان الفلاني، فما كان من فنان العرب سوى دعوتي للاقتراب منه، ليقول لي: (أذنك وسخة). ما قصده محمد بالتأكيد هو أنني أسمع الغناء كثيرا، وتتساقط التداعيات اللحنية، ووقع الوتر على الوتر في سمعي بشكل عفوي لا أستطيع مقاومة قول رأيي فيه. ما الداعي لما سبق؟ حسناً. يبدو أن الأذن الوسطى والخارجية والداخلية، انتقلت وراثيا لطفل (هو الآن يدرس الهندسة في أمريكا) اسمه (لؤي)، متفوق ومبدع في دراسته، لكنه يحرص على الاحتفاظ بأشياء حميمة بالنسبة له، ومنها، بل من أهمها (الكمنجة). لماذا؟ لؤي رقيق بطبعه. شاعري مرهف بتكوينه. كان يرى ويسمع أصدقائي الفنانين في منزلنا وهم يهطلون فنا، ويتأمل آلاتهم بشغف، فقرر في النهاية أن الكمنجة هي الأقرب الى روحه، والأكثر صدقا. ذات مساء أنصت إلى (عبده مزيد) وهو يتسامى بكمنجته إلى ملكوت لا يستطيع الخيال أن يصله. تلك الليلة قال لؤي: يا أنا يا الكمنجة. وحدث ذات مساء قريب من تلك الليلة أن يكون الموسيقار محمد المغيص في منزلي كصديق وفنان وقريب جدا إلى القلب. حدثته عن شغف لؤي بالكمنجة، وفجأة غاب ثم عاد يحمل كمنجة معتقةً بآهات الزمن. ثم قال: يا لؤي (هذي عزف عليها طلال مداح)، وهي هدية مني لك. بدأت الورطة. كيف يتعلم العزف. العزف ممنوع الطرب ممنوع ولؤي يريد أن يتوحد مع الكمنجة. مرت سنوات. ونسيت الكمنجة، أنا الذي نسيتها. وهذا المساء، في ليلة شتاء، وأنا أبعثر حجرته، وجدت الكمنجة إياها، ساخنة كآهة محروقة بالبعد. قلت له: لماذا هي معك؟ قال: لأني لا بد أن أعزف لحن الحياة الجميلة، وهناك لو عزفت سوف يحطمون الكمنجة على رأسي. هنا - هكذا قال - منحوني، بل أجبروني، كيف لا ينطفئ أي حلم في خيالي. أعزف لك يا بابا؟؟؟؟