رفض رفضاً تاماً الظهور لوسائل الإعلام، لأنه لا يريد أي شيء يذكره بهذه المرحلة. وبعد محاولات عديدة ومتكررة وبعد أن قدم «الاستخارة» أخبرنا بموافقته، وذلك لهدف واحد هو أن يكشف للعالم الانتهاكات الوحشية التي يتعرَّض لها السعوديون في السجون العراقية والمعاملة الجائرة ضدهم.. و تحدّث بوصفه واحداً من ضحايا كثيرين.. حينما يحدثك بلهجته العراقية البحتة التي أثرت فيه سبع سنوات في غياهب السجون فإنك لا تدري إن كنت ستستغرب من أنه لا يزال «حياً» بعد ما تعرَّض له من تعذيب وحشي لا يوصف، أم إنه لا يزال ينعم «بقواه العقلية» من هول ما رأى بعينيه. ويكفيك أنه بقي ثلاثة أشهر عرياناً يُمنع من دخول دورات المياه 21 يوماً. إنه صالح لافي العصيمي العائد من حبل المشنقة العراقية، يروي قصة معاناته في السجون العراقية التي بدأت منذ اعتقاله عام 1426ه بتهمة «تجاوز حدود». البداية يقول العصيمي اعتُقلت في عام 1426ه في العراق بتهمة «تجاوز حدود»، ومنذ اعتقالي بقيت ثلاثة أشهر كاملة داخل تابوت معصوب العينين مكتوف اليدين إلى الخلف بعد تعريتي من ملابسي تماماً طيلة هذه الفترة، وكانت التوابيت موصولة بها سماعات ضخمة يقومون من خلالها بتشغيل موسيقى صاخبة بصوت مزعج جداً لا يحتمل زيادة في التعذيب لنا. وكنت لا أخرج من التابوت إلا للتحقيق فقط، حيث كان يمارس معي أشد أنواع التعذيب، حتى أنه في إحدى المرات تعرضت لكسر مضاعف في الأنف وتهشيم أسناني. وكنت طيلة هذه الفترة لا أعرف أين أنا، فقط كنت متأكداً من أنني في قاعدة عسكرية لأنني كنت أسمع أصوات الطائرات العسكرية وطائرات التموين أثناء الإقلاع والهبوط. وكنا ممنوعين من أداء الصلاة، ولكن كنا نؤديها «إيماءً» بعد أن نقدر وقتها، ونكتشف في كثير من الأحيان حين خروجنا للتحقيق أننا أدينا صلاتنا في غير وقتها مثل العشاء أديناها وقت الظهر أو العكس. سجن جماعي وبعد ذلك تم تحويلي إلى السجن الجماعي الذي كان عبارة عن غرفة صغيرة تحت الأرض لا تتجاوز مساحتها 3×4م، وكنا فيها قرابة سبعين سجيناً مجردين من ملابسنا تماماً، كنا نتنفس فيها كمن يتنفس من خرم إبرة لصغر المكان وكثرة السجناء وارتفاع درجة الحرارة وزيادة الرطوبة. وكنا لا نستطيع النوم إلا بشكل مناوبات، حيث كان بعضنا ينامون وبعضنا الآخر يقفون. محاكمة ويضيف العصيمي: بعد مُضي سبعة أشهر من اعتقالي تم عرضي على المحكمة في بغداد، وكان أشبه بالمسرحية، حيث اكتشفت أن حكمي جاهز دون سماع أقوالي أو شهود أو وجود أدلة ضدي، لينطق القاضي بحقي حكم الإعدام شنقاً حتى الموت. وفور النطق بالحكم قام أفراد الحراسات الذين أحضروني من السجن إلى المحكمة وعلى مرأى ومسمع من القاضي بضربي وركلي وهم يرددون شعارات طائفية. وبعدها وُضعتُ في زنزانة انفرادية «محاجر» بانتظار تمييز الحكم لتنفيذه. ورغم الظلم في الحكم وقساوته والأيام العصيبة؛ إلا أنني كنت أرى أن الإعدام أرحم لي من العذاب الذي كنت أعيشه. وبعد مضي أكثر من عامين من صدور الحكم حضرت لجنة أمريكية «is2» وأخبروني بنقض حكمي وتحويله من الإعدام إلى إطلاق سراح. ورغم صدور حكم بإطلاق سراحي المتوقف على الترحيل فقط؛ أبقوني معتقلاً لديهم قرابة سبع سنوات، ونقلوني ضمن أربعين شخصاً من المحاجر الانفرادية إلى «سجن الرصافات»، وكان معنا أثناء الترحيل أفراد فرقة المغاوير العراقية، كانوا يمارسون أشد وأقسى أنواع الضرب طوال المسافة ونحن داخل الحافلة. مكافحة الإرهاب وبقينا في سجن الرصافات أربعة أشهر حتى حضر إلينا عدد من ضباط الاستخبارات العراقية وأجبرونا على التوقيع على أوراق بيضاء. ثم قاموا بتحويلنا إلى الفرقة الأولى في مكافحة الإرهاب بمبنى وزارة الداخلية، وتمّ وضعي في زنزانة انفرادية، وفي البداية مُنعت من النوم لأكثر من ثلاثة أيام بعد أن تم تعليقي بباب الزنزانة بربط يدي بالكلبشات، وبقيت ثلاثة أيام إلى أن اخترقت الكلبشات اللحم ودخلت إلى العظم. تحقيق كان الذين يحققون معي من فيلق بدر ومن جيش المهدي يربطون على رؤوسهم عصائب سوداء، وكانت فترة التحقيق تبدأ معي من المغرب إلى الساعة 9 صباحاً، وفي بعض الأحيان كانت فترة التحقيق تستمر لأكثر من يومين. وفي هذا الوضع لم تكن هناك رعاية صحية رغم انتشار أمراض بين السجناء، وبعضهم يعانون الجرب دون الحصول على علاج. وبقي الحال كما هو حتى حضرت قوات أمريكية وقطعوا «الكلبشات» البلاستيكية بها وأخرجونا إلى حوش السجن ونشرونا جميعاً إلى جوار بعضنا وقاموا برشنا بمبيدات لتعقيمنا، ثم أحضروا لنا صابوناً وسمحوا لنا بالاستحمام. وقبيل مغادرتهم هددوا قائد الفرقة العميد «مؤيد» بأنه إذا تكرر هذا من قِبلهم فإنهم سيعاقبونهم. أساليب تعذيب بقينا 21 يوماً مكتوفي الأيدي إلى الخلف ممنوعين طيلة هذه الفترة من الذهاب إلى دورة المياه ولا يسمح لناء بقضاء الحاجة، ولا يسمح لنا بشرب الماء سوى مرة واحدة في اليوم، حيث يحضر لنا إبريق ماء حار من دورات المياه، وفي فصل الصيف كانوا يستخدمون معنا التعذيب بالصعق الكهربائي بإيصاله عن طريق الأعضاء التناسلية أو عن طريق الفم. ومن أساليب التعذيب الأخرى التي كانوا يستخدمونها ربط أعضائنا التناسلية بطريقة لا تحتمل، والضرب بالهراوات والكيابل، لدرجة أننا كنا نقوم بتقطيع اللحم المتدلي من جلودنا جراء التعذيب بعد أن تحولت إلى طبقات من الدم الأسود. تدخُّل سريع كانوا في كثير من الأحيان يُدخِلون علينا في الزنازين قرابة ثلاثين شخصاً من أفراد فرقة التدخل السريع، ويقوم كل اثنين أو ثلاثة منهم بتولي تعذيب أحد السجناء بطريقة وحشية بشعة ويسمونها «الوجبة»، وبعد انتهائهم من وجبة التعذيب يأتي الضباط المناوبون في الفرقة ليقوموا بعزل مَنْ لحقت بهم إصابات بالغة أو كسور من السجناء عن غيرهم ليستأنف التعذيب معهم مرة أخرى. سفيان كان يعذب معي شاب عمره 25 عاماً يدعى «سفيان» لمدة 12 يوماً بأبشع أنواع التعذيب، لدرجة أنهم كانوا يوصلون الكهرباء في «قبله» وفي «دبره»، والضرب العشوائي بالكيابل والمواسير الحديدية التي يسمونها «البواري». وبعد أن انتهوا من تعذيبه تركوه مغمياً عليه، وكنت أناديه باسمه «سفيان.. سفيان» علَّه يستفيق، ولكنه لم يرد عليَّ. حاولت عدة مرات دون جدوى، وبعد قرابة ست ساعات، وحين حاولت تحريكه ولم يتحرك أدركت أنه قد فارق الحياة. حينها حضر اثنان من الضباط فتأكدا من موته، فقال أحدهما للآخر «فطس»، وهي كلمة عراقية تشير إلى احتقار الميت. ثم وضعوه في بطانية بعد أن فكوا الكلبشات من يديه ونقلوا جثته من عندنا، وبعد فترة حضرت والدته إلى السجن لزيارته فأخبروها بأنه أطلق سراحه وخرج من السجن قبل فترة، وحينما رفضت تصديقهم أخبروها بأن لديهم أوراق خروجه من السجن. فعلمت أنه «قُتل» لأن هذه الطريقة معروفة أنها من أساليبهم التي يتبعونها مع ذوي السجناء الذين يموتون لديهم بسبب التعذيب. أحمد يلحق بسفيان وبعد ذلك بفترة وجيزة كان من ضمن السجناء الذين يعذبون معي في نفس الغرفة شخص يدعى «أحمد»، قاموا بضربه بالمواسير «البواري» وبركله في أنحاء متفرقة من جسمه، الأمر الذي أدى إلى تكسُّر أضلعه وتفتت الكبد والطحال لديه، وسقط مغشياً عليه أمام ناظري والدماء تخرج من أنفه وفمه إلى أن فارق الحياة وأنا أشاهده. ولم يُحرك هذا المنظر فيهم شيئاً، بل كانوا وبكل برود يهددوني إن لم أعترف فسيكون مصيري مثل مصيره. علي الشهري ويُكمل العصيمي: مازلت أتذكر السعودي «علي الشهري» الذي كانوا يأخذونه للتحقيق وكان يعذب حتى ينزف دماً ويسقط مغشياً عليه، فيعودون به محمولاً ببطانية، لدرجة أنه أصيب جراء التعذيب بانتفاخ في أذنه بشكل مضاعف ومقزز. وأصيب الشهري بحالة هستيرية وتصرفات لا إرادية من الخوف والتعذيب، وكان يستيقظ من نومه مذعوراً وهو يصرخ. محاولة تصفية ويتذكر العصيمي محاولة التصفية التي تعرَّض لها داخل السجن من قِبل السجناء التابعين لجيش المهدي، وهي أحد أساليب التصفية التي تنتهجها الحكومة العراقية التي كانت تزود حراس السجن بأمواس وشفرات لتصفية السعوديين، هناك طريقة يسمونها «111»، وهي عبارة عن ثلاثة خطوط بالشفرة متوازية وعميقة لا يمكن معالجتها، تبقى كعلامة في وجه السجين. وكان الحراس قد استدرجوه وطلبوا منه إحضار أمتعته لوجود أمر نقل له إلى مكان آخر، وعند خروجه تم إدخاله على القاعة المخصصة لسجناء جيش المهدي الذين هجموا عليه بالشفرات وقاموا بتشريحه في أنحاء متفرقة من جسده كاد أن يُقتل منها لولا رحمة الله. قرابين ويكشف العصيمي عن وجود عدد من الضباط «الصدريين» الذين يقدمون ولاءهم المطلق لمقتدى الصدر، من أشهرهم نقيب يدعى «كرار»، حيث كانوا يبيعون السجناء إلى آخرين، ومن السجناء الذين كانوا معنا وتم بيعهم حدث عمره 15 عاماً يدعى «سفيان»، ورجل كبير كان يعمل حلاقاً اسمه «عثمان». ويتم البيع لتتولّى منظمات أخرى التعذيب خارج أنظمة السجن، مثل استخدام «دريلات» والمناشير الكهربائية. بعد ذلك يُلقون بجثة الميت في النهر أو يرسلونها إلى ثلاجة الموتى في المستشفيات، وحينما يحضر إلى السجن مَنْ يسأل عنه تخبره إدارة السجن بأنه أطلق سراحه ولا يعلمون عنه شيئاً ويعرضون أوراقاً تم التوقيع عليها من قِبل السجناء على بياض. مساومة في أحد الأيام حضر إليَّ قائد الفرقة العميد «مؤيد» وبصحبته العقيد «فاضل»، وطلبا مني أن أستحمَّ، وأحضرا لي ملابس جديدة وعطراً، بعد ذلك اصطحباني إلى مكتب كبير يجلس عليه شخص يتضح من هيئته وهندامه أنه شخص مسؤول كبير. أجلسني وتحدث معي قائلاً بأنه يرغب في مساعدتي ولكن يجب علي أن أحضر من عائلتي 100 ألف دولار، ثم أعطوني هاتف جوال وتواصلت مع شقيقي «فهد»، وأخبرني بأنهم سبق أن تواصلوا معه وأنه على استعداد لدفع المبلغ، ولكنه يريد ضمانات بأنهم سيطلقون سراحي وأنه على استعداد لمقابلتهم في الأردن وتسليمهم المبلغ إن رغبوا، لكن شرط إطلاق سراحي. وبقيت قرابة أسبوعين لم أتعرَّض للتعذيب لأنهم كانوا يأملون الحصول على المبلغ، وحينما يئسوا استأنفوا تعذيبهم لي مثلما كانوا. إطلاق السراح العام الماضي حينما أرادو إطلاق سراحي حرصوا على أن يتم ترحيلي عبر الحدود السورية لأقع في يد النظام السوري وليتم قتلي هناك. وأثناء ذلك طلب مني الضابط الذي كان سيقوم بتسليمي وكان برتبة «نقيب» 1200 دولار مقابل عدم تسليمي عبر الحدود السورية، وبالفعل دفع منها 200 دولار للسوريين مقابل رفضهم تسلُّمي. فتم إعادتي إلى العراق مروراً بعدد السجون ودفعت مبالغ مالية ليتم تسليمي للمملكة عبر منفذ جديدة عرعر. خرجت وأنا لا أستطيع السير على قدمي إلا بعكازين، حيث إن إحداهما كانت شبه مشلولة جراء التعذيب، وكنت لا أستطيع النوم إلا بتناول المسكنات من شدة الألم واستمريت في العلاج الطبيعي والتمارين.