أبو سعيد رجل مثقف تعلم الكتابة والقراءة أثناء زياراته المتكررة إلى بيت أخواله مع والدته -رحمها الله - فلما شب وأصبح فتياً أشتهر بين أقرانه بجمال خطه ، وحسن كتابته وصياغته للمكاتيب . توسع به الحال ، وافتتح دكانة صغيرة يسترزق منها ،وكانت مهنته فيها الكتابة والقراءة والمراسلة . كان أبو سعيد كعادته يفتح دكانه كل صباح ،ذلك الدكان الذي كان فريداً من نوعه في القرية ، حيث لا يوجد فيه إلا الأوراق والأقلام ، والمظاريف . يأتي أهل القرية من كل حدب وصوب نحو دكان أبي سعيد ،كل واحد له غاية ، فهذا يريد أن يكتب له رسالة لابنه المغترب للدراسة أو العمل ،وذاك يكتب لأبيه الغائب من سنوات يبحث عن لقمة العيش ، وأخر يعلن عن فقدان أثباته الشخصي ، وذاك عن فقدان صك مزرعته ،حيث أن أبا سعيد يراسل الصحف والمجلات ببعض المقالات والأخبار عن ما يحدث في محيط قريته الصغيرة وكذلك القرى المحيطة ، فمرة بأخبار السيول ، ومرة بالأحوال الشخصية والمناسبات -الأفراح منها والتعازي - وهكذا ... وفي هذه الأحوال أشتهر أبو سعيد الكاتب والمراسل المعروف ، وذاع صيته في القرى والهجر ،ليس لأنه كان بمستوى رفيع بل لأنه الوحيد,,,, تتابع على دكان أبي سعيد من المرتادين جيلين أو ثلاثة ،حتى جاء ذلك اليوم الذي عاد فيه أبناء تلك القرية إليها بعد أن خاضوا غمار الغربة للدراسة والتعلم والثقافة في المدن الكبرى ،حتى أصبح في القرية أكثر من كاتب وأكثر من متعلم، بل وصل العلم والثقافة كل بيت، وأصبح هناك أكثر من دكان،فلم تعد هناك حاجة ماسة إلى دكان أبي سعيد فبدأ رواد الدكان يقلون ،وبدأ يشعر أبو سعيد بالملل ، وقل دخله المادي ، وتنازل مستوى شعبيته ومكانته ، فلم يعد يُلتفت إليه ، ولا يُسأل عنه ، ولا يُدعى للمحافل العامة والخاصة ،ولكن أبا سعيد مازال مصراً على أنه الأفضل ولا غنى للناس عنه ، وسيبقى الأفضل ولا يحق لأحد أن يحتل مكانه أيا كان . وكان يردد : أن هذا الجيل القادم لا يملك أي مقوم من مقومات التميز والنجاح ، من الخبرة والمهنية والبراعة والإبداع . فكان كلما حانت له فرصة يرمي بعبارات يريد منها أثبات وجوده ، وتهميش غيره ، إلا أن محاولاته فشلت ،فنبذه الناس ، وستثقلوا مجالسته ، فصار وحيداً فريداً إلا من نزر يسير من أصحابه القدماء الذين يحفظون له الوفاء والتقدير. شاب رأس أبي سعيد ،ووهن عظمه ،ومازال يصر أنه الأفضل ،كل ذلك جعله ينسى السبب الذي صرف الناس عنه ، واستبدلوه بغيره ،نسي أن بضاعته لم تتغير مع تغير الزمان ، فمازال يستخدم نفس العبارات ، ونفس الكلمات من سنوات . وأوراقه القديمة لم يستبدلها بأوراق أكثر جودة ، ومحله الصغير بقي على حاله مغبر ، موحش ضعيف الإنارة . مقابل تلك الدكاكين الأكثر تطورا وجمالا . وأكثر مهنية وإبداعا . لا ننس أن أبا سعيد رجل طيب ، كريم الخصال ، لين المعشر ، محب لقريته ،إلا أنه قليل الفطنة والدراية في سياسة كسب المنافسين فقد كان لا يقبل بشريك معه في المهنة ( وهذا ما لا يمكن أن يكون على طول الزمان )،لأنه أعتاد التفرد وعشقه ، وأعتقد أن أي شراكة معناها نهايته وزوال مكانته . أعتقد أن التنافس حسد وغيض وكره ، فصار يبني على هذا المبدأ أي تصرف مقصود أو غير مقصود . حاول أن يطور من نفسه ويغير من واقعه بعدما نصحه المقربون ، فقام بنقل دكانه إلى الشارع العام الذي أصبح رافدا من روافد التجارة ،فغير واجهة الدكان واستبدل اللافتة ، حتى مظهره الخارجي قام عليه ببعض التعديلات . في يوم الافتتاح جلس على كرسيه الدوار ووضع جهاز الحاسوب أمامه فقد أصبح جزء لا يتجزأ من مكونات دكاكين الكتابة والقراءة والمراسلة . إلا أنه كان طيلة اليوم مقفل فهو لا يحسن التعامل معه . وضع دعاية وإعلان ، ووضع الجوائز والمكاسب للزوار والزبائن ، إلا أنه كان في دعايته لم تغب عنه ( الأنا ) التي كان يعيشها وتسكن في ذاته. نحن الأفضل ، نحن الأجود ، وغيرنا تبع لنا ، وقديمك نديمك .وغيرها من العبارات الترويجية . وبعد شهر وشهرين ، شعر أبو سعيد أن كل مساعيه لم تجدي ، فقد تناقص زبائنه من أول أيام الافتتاح . وعادت الهموم ترتسم على وجه الذي أنهكه مر السنين ، فأخذ يحارب الإبداع والتجديد ، ويرفع صوته ، ويتهم ويرمي بشرر كالقصر على منافسيه. - مسكين أبا سعيد .. إن المشكلة لم تكن لدى أبي سعيد في مظهره أو مظهر دكانه ، مع أنها مهمة وضرورية . المشكلة كانت تكمن في أفكاره التي أصبحت بائيته وقديمة،، المشكلة تكمن في تعامله مع منافسيه الجدد،، المشكلة تكمن في التطوير والإبداع الكتابي ، يا أبا سعيد .. المجتمع أصبح أكثر فهما ،وأوسع إدراكا ،وأشمل إطلاعاً . وأصبح بحاجة للتكاتف أكثر من التنازع ، لتوحيد الجهود أكثر من تفردها وتبعثرها ، بعيدا عن الشتائم ، والسباب . كان حريا بأبي سعيد أن يفرح بتوسع دائرة المعرفة في قريته ، كان حريا به أن يتولى إقامة تنظيم رابطة المثقفين فيها لقِدَمه ومكانته . كان حريا به أن يضم إلى عمله كل الشباب الطامح القادم بقوة ، ليستطيع من خلال ذلك كسب أكبر عدد من داعمي دكانه . فلو قام أبو سعيد فاحتوى كل الكتاب والقراء والمراسلين من البداية لما حل به وبدكانه البؤس والكآبة .. إن واقع أبي سعيد يتكرر من حين لأخر ،في بعض المجتمعات ،ونظائره متشابهون ،سواء كانوا في مجال الكتابة أو القراءة أو حتى في مجالات شتى كالإنشاد والإلقاء . حتى تكرر وللأسف في بعض من نصب نفسه للدعوة والإرشاد .فحارب كل صوت غير صوته ، وكل فكرة غير فكرته ، وكل طريقة غير طريقته . إن العاقل المدرك لواقعه وما سيحل به ، عليه أن يسارع في تخطي كل القيود القديمة ليرسم لنفسه خطا جديدا يشرك معه غيره ممن تحلى بنفس حلته ، ليمد جسوره مع كل من حوله دون نزاع أو شِكال ،لا ينجح في الواقع الجديد من يدعو الناس لنفسه ولتمجيده ، ويطالبهم أن يرفعوه فوق روؤسهم . إن من يحمل هم غيره ، من يحمل هم مجتمعه وأمته ويخلص في ذلك ، ويمد يده لكل من يعينه ،فليس يهمه أن حصل الخير به أو بغيره لأنه لم يرده لنفسه ، فمثل هذا سيضطر الزمان أن يخلد ذكره ، وأن يرفع مكانته رغما عن كل مغرض أو منافس . لنعش أمة واحدة ، هما واحد ، ووسائلنا في التغلب على مشاكلنا تصب في مصلحة واحدة إنها مصلحة الجماعة . من عاش لنفسه ماتت نفسه معه ، ومن عاش لغيره عاشت نفسه مع الناس . على العقلاء أن يسخروا كل الإمكانيات ليستفيدوا منها جميعا . وعلى العقلاء أن يدركوا أن الإصلاح ليس حكرا على أحد . فالكل شركاء فيه . الإبداع والتميز ليس حكرا على أحد بل الطريق مفتوحة ولن تغلق مادامت السموات والأرض. أفهمت يا أبا سعيد . أفهمتم يا أشباه أبا سعيد .. محمد بن فرحان العنزي