عِنْدِما نتأمَّلُ في حياةِ العصورِ السابقةِ ، نُحِسُّ وكأنها مسلسلٌ تاريخيٌّ خياليٌّ ، ونجدُ أنَّ الحياةَ قصةٌ لم تكتملْ بعد ! إذًا فما قصة الحياة ؟ عندما أخبرَ اللهُ سبحانه وتعالى الملائكةَ بأنه سيخلقُ بشرًا يخلفُ الأرضَ ويعمرُها ، وكان ردُّ الملائكةِ : أتجعلُ فيها من يفسدُ فيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسبِّحُ بحمدِكَ وَنُقَدِّسُ لك ؟ فردَّ الله عزَّ وجلَّ عليهِم بقولِه : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) سورة البقرة هنا بدأت قصةُ الحياةِ الدنيا ، وذلك حينما عزمَ ربُّ العالمين على خلقِ آدمَ عليه السلام ، حيث أخذَ بيديْهِ جلَّ جلاله من تُربةِ الأرضِ الحمراء والصفراء والبيضاء والسوداء ، ثم مزجها بالماء ، فأصبحت صلصالاً من حمإٍ مسنون ، وهنا تبيَّن ووضح لنا سبب اختلاف ألوان البشر . وبعد أن نفخَ فيهِ من روحِه ، دبّت فيه الحياة ، سجدَ الملائكةُ كلُّهم ، والسجودُ هنا سجودَ تكريمٍ لا سجودَ عبادةٍ ، إلا إبليسَ لم يسجدْ ! فقال له الله سبحانه تعالى : ( ما منعكَ أَن تسجُدَ لِمَا خلقتُ بِيَدَيَّ ) ؟ قالَ إبليسُ : ( أنا خيرٌ منهُ خلقتني من نارٍ وخلقتَهُ من طين ) . فقال له رب العزة والجلال : ( فاخرُجْ مِنْها فإنكَ رجيم ) أي من الجنة ، ورجيم أي ملعون . ولم يقفْ الموضوعُ عندَ الغضبِ والطردِ ، بل إنَّ إبليسَ توعَّدَ بِأنْ يغوي بني آدم حتى قيام الساعة . لقد بدأ إبليسُ الذي لعنه الله بالترصدِ لآدم وزوجتِه ، حيث وسوس لهما وأغواهما وأخرجهما من الجنةِ ، وبعد ذلك ظلَّ يعيثُ في الأرضِ ويغوي بني آدم إلى يومنا هذا وحتى تنتهي الحياة الدنيا . لنتأمل بعد ذلك العصر الجاهلي ، الذي صوَّره لنا التاريخ ، حيث كان يسوده الجهل وعبادة الأصنام والأوثان ، والحروب والقتال ، والغزو والثأر ، فكان نظامهم كنظام الحيوانات ( البقاء للأقوى ) . ولا ننسى أنَّ ذلك العصرَ قد تميَّزَ بمميزاتٍ أدبيةٍ من شعرٍ ونثرٍ وخطابةٍ . ثم بعد ذلك جاءَ الإسلامُ ليعلو بحياةِ البشريةِ إلى القمَّة ، فكان عصرُ النبوَّةِ هو الأفضل على الإطلاق ، ثم بدأتِ الحياةُ تنحدرُ شيئًا فشيئًا إلى وقتِنا هذا . ما قصةُ هذهِ الحياة ؟ لا بُدَّ لكلِّ قصةٍ من بدايةٍ ونهاية ، فبدايةُ القصةِ الأدبيةِ مقدمة ، ثم شخصيات ، ثم أحداث ، ثم صراعات ، ثم حلول ، ثم نهاية . وكذلك الحياةُ الدنيا شبيهةٌ بالقصة الأدبية ، لها بداية ونهاية ، وعناصر شبيهة بعناصر القصة . العناصر : 1- المقدمة : لقد بدأت الحياة البشرية من خلق أبينا آدم عليه السلام ، وما دار قبل ذلك بين الله سبحانه وتعالى والملائكة في خلق آدم ، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك باختصار . 2- الشخصيات : بدءًا من أبينا آدم عليه السلام ، ثم خُلِقَ من ضلعه أمِّنا حواء ، ثم أنجبا أولادًا ، ثم استمرت البشرية في التكاثر إلى يومنا هذا . 3- أحداث زمانية ومكانية : لقد حلَّت أحداث زمانية ومكانية بدءًا من آدم وحواء وإبليس ، حيث كانا في الجنة يتمتعان بنعيمها وما فيها ، فوسوس لهما إبليس ليخرجهما من الجنة ، ثم ما حدث بعد ذلك بين قابيل وهابيل ، ثم توالت وما زالت تتوالى الأحداث الزمانية والمكانية إلى يومنا هذا . 4- الصراعات : الحياةُ الدنيا دارُ الصراعات والنزاعات والخلافات والمعارك والقتال ، فلا يكادُ يخلو زمنٌ من تلك الصراعات التي أسسها الشيطان إبليس الذي لعنه الله ، وأخذ العهد من الله أن يُنْظِرَهُ ويطيل في عمره إلى انتهاء هذه الحياة . وعلى ذلك فقد كرَّس إبليسُ جهدَهُ في إغواءِ البشريّةِ ، فهو يدعو إلى الكفرِ والشركِ والضلالِ والصدِّ عن ذكر الله ؛ ليرى معه شركاء وأصحاب في العصيان والنار ، وهو مستمرٌّ في إيذاءِ البشريةِ ، و مازالَ قائمًا بدورِه إلى وقتِنا هذا . 5- الحلول : مازالتِ الحلولُ للفكرِ البشري قائمة ، فلكلِّ مشكلة حل ، وتختلفُ الحلولُ من حدثٍ إلى آخر ، فهناك حلولٌ إيجابيةٌ وحلولٌ سلبيةٌ . فحينما قتلَ قابيلُ هابيلَ ، تركهُ على الأرضِ ولم يعلم ماذا يفعل بعد ذلك ؟ فبعث الله غرابا لِيُرِيَهُ ماذا يفعل ؟ نَدِمَ قابيلُ على فعلتِه الشنيعة ، التي تُعَدَّ أول معصيةٍ لله على هذه الأرض ، فهل نفعه ندمه ؟ وهل كان الحلُّ سلبيًّا أم إيجابيًا ؟ وهكذا فإنَّ لكلِّ مشكلةٍ حل ، والمشاكلُ مستمرةٌ ، والحلولُ تعقُبها سلبًا وإيجابًا . 6- النهاية : النهاية وما أدراك ما النهاية ؟ وما يهمنا هو نهايةُ كلّ واحدٍ مِنّا ، وليست نهاية الحياة الدنيا ، فإذا مات العبد فقد قامت قيامته . نهاية الحياة الدنيا في علم الغيب ، فلماذا نفكر ونهتم بنهاية الحياة الدنيا ؟ ونحن لن نخلُدَ فيها أو نُعَمَّرَ إلى نهايتِها ؟ لا تأمن أيها الإنسان أن تكون أنت الأطولُ عمرًا من بين الخلقِ ، فقد تموتُ في أيِّ لحظةٍ كما مات غيرك ، فالموت لا يعرف صغيرًا أو كبيرًا ، أو غنيًا أو فقيرًا ، أو حاكمًا أو محكومًا ، ولا تغرنَّك الحياةَ الدنيا القصيرة الفانية الزائلة ، قالَ اللهُ تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) سورة فاطر لكلِّ قصةٍ عِبْرةٌ وعِظةٌ ، فهل فهمنا قصة الحياة ؟ ولكلِّ قصة نهاية مفرحة أو محزنة ، فهل يا تُرى كيف ستكون نهايتنا ؟ هل سنموتُ على الإسلامِ أم على الشركِ ؟ هل سنموتُ على التوبةِ من المعاصي أم على الإصرار ؟ هل سنموتُ على حُسْنِ الخاتمةِ أم على ضدِّها ؟ ها هي قصة الحياة مستمرة ، والدنيا لم تنته بعد !؟ أسأل الله أن يحسن خاتمتنا ، وأن يصرف عنا مكائد الشيطان ، وأن يوفقنا للعمل الصالح الخالص لوجه الكريم .