وسط دعم دولي وتعاطف شعبي خرجت فرنسا من صدمتها التي سببتها حادثة ( شارلي ايبدو ) الارهابية , وانطلاقا من القاعدة القائلة : بأنه في الازمات تكثر النقاشات والافكار , فإن فرنسا اليوم أمام اسئلة عميقة يثيرها واقعها السياسي والاجتماع والديني, وهي اسئلة لها ارتداداتها اللا متناهية على صعيد الجدل الفكري . ولعل الحرب على الارهاب والسياسات التي ستتخذ لمواجهته ستكون المغذية لنقاش عميق وطويل ستظهر نتائجه واقعا ملموسا بعد حين من الزمن , حيث ستشهد الايام القادمة صداما حادا بين الواقعيين الذين يقرعون اجراس الحذر من اسلمة اوروبا وذوبان العرق الاوروبي في محيط من الاعراق التي هاجرت للقارة العجوز طلبا لحياة افضل , والعقلانيين الذين سيرون في الاجراءات المتبعة تهديدا لمفهوم الحرية الذي شكل اساس الثورة الفرنسية. وتعيد النقطة السابقة الى الاذهان الجدل الذي شهدته الولاياتالمتحدة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر , وقد نجح الرئيس الامريكي باراك اوباما بعد عقد من الزمن في اتخاذ خطوات تقرب وجهات نظر الطرفين ، ومن الواجب عند المقارنة بين احداث الحادي عشر من سبتمبر , واحداث شارلي ايبدو التوقف عند نقاط الاختلاف وهي جوهرية , ففيما يخص الولاياتالمتحدةالامريكية كان الاعتداء خارجيا استوجب وحدة الصف لمواجهة ما اطلق عليه كراهية الآخر , اما في فرنسا فالاعتداء صادر من الداخل وبالتزامن مع احتقان داخلي ينذر بصراع صفري , فنحن أمام ثنائية العرق والدين المدعومة بخلل في النسب المئوية لصالح غير الفرنسيين ' الامر الذي حدا بالواقعيين في اليمين الفرنسي إلى دق ناقوس الخطر من اسلمة اكبر واهم بلد في اوروبا . وهنا يُذكر ان حادثة ( شارلي ايبدو ) تزامنت مع نشر مقال تخيل كاتبه أن فرنسا سيحكمها في عام 2020 رئيس مسلم , ليسقط على الواقع الفرنسي في حينه ما هو حاصل الان في المناطق التي يحكمها داعش في كل من سوريا والعراق , وهي صورة مفزعة لمجتمع كالمجتمع الفرنسي . وقد يرى البعض ان طرح سيناريو يتحدث عن تحديات قد تواجه الديمقراطية ,هو طرح تشاؤمي بل وخيالي بالنظر لعمق التجربة الفرنسية التي تناهز الخمسة قرون , ولكن ما قادني لهذا الطرح معطيات ثلاث : - أن العالم بلا شك يعيش حربا عالمية ثالثة محورها الارهاب , وسيكون لها اثار عميقة ونتائج سترسم ملامح القرن الحالي ليس لاوروبا فقط بل للعالم باسره, وذلك استنادا لما احدثته الحربان العالميتان السابقتان واللتان غيرتا ملامح الساحة الدولية . - معطيات الواقع الراهن الذي تعيشه فرنسا مختلف تماما عن المسار التاريخي الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية وما قامت عليه من بناء اجتماعي استندت عليه اسس تلك الثورة ( الحرية , المساواة , المواطنة ) , كما أن هذا الواقع مختلف تماما عن تجارب الجمهوريات الفرنسية الخمس ,فالبناء الاجتماعي لفرنسا اليوم قائم على ثنائية العرق والدين , وهذا المعطى بحذاته يضع الفرنسين امام اسئلة صعبة . - إن اوروبا أمام تحدي البقاء , فالتحذيرات الصادرة عن الفاتكان ومراكز الابحاث تعكس أن الوجود المسيحي في اوروبا معرض للخطر , فبحسب الاحصائيات الرسمية فإن الاسلام بحلول عام 2050 سيصبح في بعض البلدان الاوروبية الدين الرسمي الاول بالنظر للارتفاع المضطرد في اعداد المسلمين في تلك الدول ,وفرنسا من ضمن تلك الدول نظرا لكونها تحتضن اكبراقلية مسلمة في اوروبا . وانطلاقا من تلك المعطيات سيبدأ النقاش باستدعاء التاريخ والمقارنة بينه وبين الواقع الذي هو اليوم مخالف تماما للبيئة التي ظهرت فيها ثقافة التسامح بعد ثلاثة عقود من الحروب الدينية الطاحنة , والتي ساهمت في تسيد النظريات العقلانية للمشهد في اوروبي باعتبار ان الانسان عاقل ويستطيع ضبط تصرفاته من تلقاء نفسه سواء في حالة حضور القانون او غيابه , وعلى هذه الارضية قامت الثورات على الممالك الاوروبية عبر بوابة الديمقراطية التي ستكون امام تحد صعب للبرهنة على انها منتج انساني وليست اوروبي , وذلك بتقبل الواقع على ان الاسلام بات جزء من اوروبا .