عشية صدور مجلة «شارلي إيبدو» برسومها الكاريكاتورية المسيئة الى الاسلام، كان متحف اللوفر العريق يفتتح جناحاً كبيراً للفنون الاسلامية يضم اعمالاً فنية نادرة تتحدر من عصور ومدارس مختلفة، وتشهد على عظمة هذا الفن وغناه وروحانيته العميقة. لكنّ الضوضاء التي أحدثتها هذه الرسوم القميئة وذات «الذوق السيئ» كما وصفتها صحيفة «لوموند»، طغت على الحدث الحضاري البارز واحتلت الواجهة السياسية والاعلامية، وأيقظت النقاش الشائك حول «الاسلاموفوبيا» و «حرية التعبير» و «الحق في التجديف»... وسواها من المقولات التي أضحت اقرب الى الشعارات المستهلكة بعدما فقدت ذريعتها الثقافية. وكان الموقف الرسمي الذي أعلنته الدولة الفرنسية شبه عادل منذ أن دافع عن حرية التعبير التي تشكل «احد الأسس الرئيسة للجمهورية الفرنسية» وقرنها بما سمّاه «روح المسؤولية لدى كل فرد»، مذكّراً بأنّ القضاء يحفظ حقوق الاشخاص وحقوق الجماعات التي تتعرض للقدح والذم، عرقيّاً ودينياً. إلاّ أنّ مجلة «شارلي إيبدو» اعتادت دوماً ربح قضاياها أمام القضاء، لا سيما اذا كانت القضية تتعلق برسوم مسيئة للإسلام كما حصل عام 2006 عندما نشرت رسوماً ساخرة، دنماركية المصدر. وقبل عام، أقدم متطرفون اسلاميون غاضبون على حرق مكاتبها انتقاماً منها بعدما كررت فعلتها بعيداً من اي عقاب قانوني. وبدا هذا «الحرق» ضرباً أخرق لا يقل سوءاً عن «أفعال» المجلة المدبّرة وغير البريئة بتاتاً، وقد استنكرته المراجع الاسلامية في فرنسا. أما الرسوم الاخيرة التي اعترض عليها مثقفون فرنسيون كثر، فلم تنل أي عقاب ولو شكلياً، على غرار ما فعل القضاء الفرنسي في منعه قبل ايام، مجلة «كلوزير»، من بيع صور دوقة كيمبردج (كايت) أو معاودة نشرها، عقب الفضيحة التي اثارتها هذه الصور وفيها تظهر الدوقة عارية الصدر. تحرك القضاء الفرنسي سريعاً في شأن هذه الصور، صوناً للعرض الرفيع والكرامة الشخصية، على خلاف تحركه في الشؤون التي يُساء عبرها الى المشاعر البشرية، ومنها مشاعر المسلمين في فرنسا والعالم. ولا يمكن هنا نسيان العقاب القانوني الذي حلّ بالمفكر الفرنسي روجيه غارودي بعدما سعى الى معاودة النظر في أرقام المحرقة النازية، مشككاً فيها علمياً. وقد تعرض من بعده الكاهن الفرنسي المسيحي الاب بيار لحملة شعواء، عامة ورسمية، عندما فكّر في الدفاع عن المفكر المضطهد، فتراجع بسرعة عن رأيه خوفاً على نفسه. وسواء كان غارودي محقاً أم لا، فالاضطهاد الذي تعرض له ليس إنسانياً ولا يمكن القبول به. لكنّ المحرقة هي من الامور «المقدسة» التي يجب عدم المساس او الشك بها. وكل سعي الى النظر فيها، تاريخياً أو سياسياً، هو عرضة للمساءلة القانونية الصارمة، احتراماً لمشاعر الجماعات اليهودية في العالم. أما التعرض للاسلام والرموز الاسلامية علانية ومن غير هوادة، فهو لا يُعد إساءة الى المسلمين ولا مّساً بمشاعرهم. ومثله أيضاً التعرض للدين المسيحي وللمسيح شخصاً ورسالة. ومعروف أنّ الاساءة الى المسيحية لا تتوقف وغالباً ما تأخذ شكلاً سافراً، لكنّ المسيحيين اعتادوا هذه الافعال الفاحشة وما عادوا يبالون بها، ولعلهم يعلمون جيداً من يكمن وراءها من اصوليين يهود او اسرائيليين. وقد يبدو الاعتداء على الكنائس في فلسطينالمحتلة أشد هولاً من الرسوم التي تسخر من المسيح. واللافت أنّ ما من مرة تعرض رمز من الرموز اليهودية في فرنسا والغرب الى اساءة او تشويه وتحريف. وهذا أمر يطرح سؤالاً خطيراً: لماذا المسيحية والاسلام وحدهما هما ضحية هذا الاعتداء السافر؟ حتى البوذية والهندوسية وسواهما من الاديان الآسيوية لم تتعرض الى مثل هذه الاعمال الشنيعة. حملت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية في صدر صفحتها الاولى قبل ايام سؤالاً مثيراً وملغزاً: هل التجديف حق مقدس؟ إذا كان هذا السؤال موجّهاً الى القراء الفرنسيين، فالجواب عليه غاية في السهولة. في دولة علمانية مثل فرنسا يبدو التجديف حقاً مشروعاً، شرط أن يبقى بمثابة خيار فردي يعيشه الانسان بينه وبين نفسه، فلا يمس الجماعة التي تقطن «الضفة الاخرى» وفق تعبير المفكر التنويري الفرنسي باسكال. وليس بخفي ذيوع الإلحاد في فرنسا وأوروبا بعد رواج الوجودية والعدمية، وما زالت صرخة نيتشه الإلحادية تدوّي في سماء أوروبا. لكنّ هذا لا يعني أن الايمان انتهى في الغرب، فالدعوات الدينية تهبّ حيناً تلو حين، والاهتمام بالروحانيات يزداد حضوراً. أما في العالم العربي والاسلامي فالأمر يختلف. الالحاد حاضر ولكن بصمت، وبعيداً من المنابر والنقاشات المعلنة، على خلاف ما كان يحصل في عصر النهضة والعقود التي تلتها. ومع أنّ لا إكراه في الاسلام ولا في المسيحية، فغالباً ما يتحاشى الملحدون العرب إعلان مواقفهم خوفاً من المتطرفين والظلاميين، وما أكثرهم الآن. ويكفي تذكّر الحادثة التي تعرّض لها نجيب محفوظ. تحدث الكاتب الفرنسي المعروف باسكال بونيفاس عن الخديعة التي تلجأ اليها مجلة «شارلي إيبدو» كلما تدنّت نسبة مبيعها، والخديعة هذه تتمثل في اللجوء الى نشر رسوم تسيء الى الاسلام وتستفز المسلمين، وهذا ما حصل فعلاً، فالعدد الاخير نفد بسرعة وأعاد الى المجلة سمعتها، السيئة طبعاً. وكم كان حكيماً إمام مسجد باريس الشيخ دليل أبو بكر عندما دعا الى التهدئة وعدم المبالاة بهذه الرسوم التي لا تسيء إلا الى اصحابها، واصفاً إياها بالسخيفة.