ها أنذا أجلس وحيدا ؛ أقلب بعض صفحات أيامي القديمة , أيامي العذبة التي كنت فيها أسعد أهل الأرض , أو كذلك كنت أشعر , كنت طفلا بريئا لا يعرف شيئا عن الحياة سوى أنها ضحك متواصل ولعب مستمر وركض لا ينتهي ؛ كان الكون في عيني أن أجلس مع والدي على ذات الكرسي والحياة في نظري أن أجلس في حجر والدتي , لا أحمل هم غدي ولا أحزن على ما كان في أمسي ؛ كما لا أسمح أن أنغص يومي الذي أملكه بنفسي , إنني لأكاد أشتم رائحة الطين الذي بنيت به منزلي الصغير الذي لم يلبث أن حطمته شياه أمي وأكاد أسمع صوت والدتي توقظني بعد قيلوتي , وأكاد أرى ما أعدته لنا من طعام للعشاء , بل أكاد أرى نفسي يوم كنت صغيرا وأنا العب هنا وهناك , وكأني أرى أخي الحبيب الذي أكبره بعامين يشاركني فيما أصنع,ثم لا نلبث أن نتعارك ؛ فإن تعاركنا أدبر كل واحد منا عن الآخر ,ويكون أسرعُنا للرضا أولُنا ابتكارا للعبة جديدة لا تصلح إلا أن يشارك كل واحد منا الآخر فيها كأنني أرى غرفتنا الوحيدة التي كانت عندي أعظم من قصور بلقيس , وكأنني أرى سريري المتهالك الذي كان عندي أفضل من كل أثاث الملوك , شيء لا أستطيع وصفه وأنَّى لي ذلك ؟ . وقد مضت الأيام ومرت السنون , وتغير كل شيء عن أي شيء أتحدث ؟ عن أحزان الطفولة الجميلة ؟ أم عن أحلامها البرئية أم عن أصدقائها الأوفياء ؟ أم عن القرية الريفية البسيطة أم عن ألعابنا المتواضعة ؟ أم منازلنا المتهالكة ؟ أم تصرفاتنا الساذجة ؟كل شيء يدعوني أن أتوقف عنده لبعض الوقت ؛فأسرد عنه ما أسرد , وأسكب ماء ذكريات جميلة ,ثم أصنع منه شيئا يصلح للقراءة أو أظن أنه يصلح للقراءة , وإني إذ أسرد ذكريات الطفولة إنما أحكي ذكريات كل إنسان كان طفلا ذات يوم ؛ لأن ذكريات الطفولة عند البشر متشابهة في حلاوتها وجمالها وبراءتِها , ولكنها قد تختلف في بعض جزئياتها , على أي حال , لا أتمنى شيئا في هذه الحياة إلا أن أرد ساعة إلى عهد الطفولة أعيش فيها ؛ وإنها لساعة عزيزة , أنَّى للماضي أن يعود ؟ وكيف للأيام أن ترجع ؟ وأنى للأماني أن تتحقق بمجرد مرورها بالنفس ؟ هذه مقدمة بسيطة على أنني لا أتقن المقدمات ولا أعرف كيف تفتتح المقالات , ولا أهتم لشيء من ذلك , إنما يعنيني أن أكتب ذكريات أمتّع بها نفسي وأسلي بها قارئ كلماتي , آخذه بعيدا عن عالم الماديات والمصالح إلى دنيا الأحلام والبراءة , إليك أيها القارئ الكريم : إن وجدت فيما أكتب خيرا أو فائدة أو جمالا فذلك ما أرجوه وإن وجدت خلاف ذلك فنصيحة منك هي أعظم خدمة تسديها لأخيك , لعل الله أن يعيننا على استكمال ما بدأناه من عمل , وأن يجبر لنا فيه الخلل , وأن يجعله بعيدا عن الملل في قادم الأيام نتصفح أيام الطفولة الجميلة وإياكم إن شاء الله . 1