فى هذا الموعد من كل عام تتعالى الأصوات من مختلف الجهات حول حكم الاحتفال بمولد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ، والذى نعيش فى رحابه هذه الأيام ، وقد يقول البعض أن الاحتفال به بدعة ، بينما يراه الأكثرون أنه من السنة وأنه نتاج حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وواجب على كل مسلم أن يعلن حبه للرسول بالطريقة التى يدركها. حول هذا الموضوع تحدث الأستاذ محمد الثوينى أمس الأربعاء فى برنامجه "حريتى" عبر قناة الرسالة ،موضحاً أن العنصر الذى نحكم به على العمل كونه بدعة أم لا هو عدم وجود الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، فالحب والبغض أساسيان فى قلب الإنسان . ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان ، يحب الإنسان نفسه يحب أيضاً كل ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتصاله به جسمانياً، كالأولاد والعشيرة، أو معنويا كالعقائد والأفكار، وأحياناً تكون العقيدة أغلى عنده من كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه. فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسسها ومغذيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها ولهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة طبقة الأنبياء والرسل، منذ أن شرع الله الشرائع وبعث الرسل، فترى أصحابها يقدمونهم على أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال. ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشرية حسبما يوضح دكتور الثوينى ، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حب النبي وكل ما يرتبط به، ليست الآيات إلا إرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِين. وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُون)، ويقول سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون" فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة:الإيمان به، تعزيره، نصرته ، اتباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه. وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله: (ونصروه) وإنما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنه نبي الرحمة والعظيمة، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها وغيرها، تماماً كما أن الإيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة. هذه هي العوامل الباعثة إلى حب النبي صلى الله عليه وآله وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك. يقول دكتور الثوينى: لا يوجد منهج معين لحب الرسول تسير عليه الأمة المؤمنة ، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات معرفتهم به كاختلافهم في حب الله تعالى. قال الإمام القرطبي: كل من آمن بالنبي -صلى الله عليه وآله-إيماناً صحيحاً لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كم كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وآله- اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردد فيه . ومن مظاهر الحب للنبى فى الحياة إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته، بل أن من خصائص الحب أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة. فحب الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتباع دينه، والاستنان بسنته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول الله ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادعى حباً في نفسه وخالفه في عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين. ثم سرد دكتور الثوينى أمثلة توضح كرامة يوم مولده صلى الله عليه وسلم ، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: (ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزل علي) قول الحافظ ابن رجب الحنبلي عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده : (إنّ من أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد صلى الله عليه وآله وبعثه وإرساله إليهم، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فصيام يوم تجددت فيه هذه النعمة من الله سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر. ومثال آخر: روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس -عليه السلام- قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي : نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصومه. وقد استدل العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: (فيستفاد فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظر ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم. ثم رد الدكتور محمد الثوينى عن المشككين والقائلين بمنع الاحتفال كلياً وقال : قال محمد حامد الفقي: (والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم) ونلاحظ هنا أن العنصر المقوم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظم له أو ربوبيته، أو كونه مالك لمصير المعظم المحتفل، وأن بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضاره ولا أقل بيده مفاتيح المغفرة والشفاعة. وأما إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر واحتفل بذكرى رجل ضحى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعد ذلك عبادة له، وإن أقيمت له عشرات الاحتفالات، وألقيت فيها القصائد والخطب. ومن المعلوم أن المحتفلين المسلمين يعتقدون أن النبي الأكرم عبد من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من الله إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.