الشروق المصرية «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».. ولكن الدولة تلدغ من نفس الجحر عدة المرات.. والإخوان وحلفاؤهم يكررون الخطأ الواحد مئات المرات.. دون أن يفكر أحدهما فى طريق آخر يجعلهما لا يكرران الخطأ. فذاكرة جماعات الإسلام السياسى المصرى ضعيفة وتلدغ من الجحر نفسه مئات المرات وتبدأ من حيث بدأ الآخرون وكأنها ولدت اليوم وليس لها سابق خبرة وتجربة. لقد لدغت الدولة المصرية منذ قرابة عام بحكم محكمة المنيا الذى قضى بتحويل أوراق ألف متهم هم جملة المحالين للمحكمة إلى فضيلة المفتى لاستشارته فى إعدامهم فى سابقة هى الأولى فى تاريخ مصر كله القديم والحديث. وقد رفض المفتى معظم الإحالات، كما أن محكمة النقض العريقة نقضت هذا الحكم وحولته لإعدام 27 متهما معظمهم هاربون.. ونال الباقون عقوبات متدرجة من المؤبد وحتى البراءة. إذا تمخض الحكم إلى 27 متهما فقط سيعدم منهم ثلاثة فقط.. لأن الباقين هاربون . وحينما صدر هذا الحكم منذ أكثر من عام أحدث ردود فعل سلبية تجاه مصر «الدولة والحكومة والشعب والقضاء» من دول كثيرة سواء فى أمريكا أو أوروبا أو آسيا وأفريقيا أو من دولة مجاورة أخرى. وكلما ذهب وفد دبلوماسى أو سياسى إلى بلد سألوه عن هذا العدد الضخم من الإعدامات ظنا منهم أنه سينفذ فورا.. واعتقد بعضهم أنه نفذ.. حتى الوفود المصرية التى كانت تزور الهند وغيرها سألوهم عنها.. والأمم المتحدة استنكرت و..و.. وكان الجميع يدافع دون جدوى ودون تفهم.. إذ أنهم لم يعهدوا على الدولة المصرية طوال تاريخها هذه الإحالات الكثيرة.. حتى فى عهد عبدالناصر أو مبارك الذين استخدموا المحاكم العسكرية فى مقاومة الإرهاب والعنف المسلح. أى أن هذه الإحالات الألف التى «لم تنفذ» أضرت بالسياسة والاقتصاد والسياحة والاستثمار المصرى. سيهتف البعض متحمسا: «إنها مصر التى لا يهمها شىء وأكبر من كل شىء». فأقول له: «هذا كلام إنشائى من بقايا عصر الستينات التى كان شعارها «سنرمى إسرائيل ومن وراء إسرائيل للبحر» وشعار القذافى «طظ فى أمريكا».. وكانت النتيجة أن الذى ألقى به فى بحر الهزيمة المظلم هو مصر والعرب فى 1967. فأمريكا نفسها يهمها رأى أصغر دولة وتحاول استقطاب كل الدول لصفها حتى لو كانت موزمبيق أو بوركينا فاسو. فالأحكام أو الإحالات للمفتى لا تعمل فى فراغ.. إنها تنغمس فى أوساط السياسة والاقتصاد والاجتماع رغما عنها.. فلا شىء فى الحياة الآن يعمل فى فراغ.. وحكم محكمة المنيا الذى تم نقضه تسبب فى عمليات إرهابية كثيرة اتخذت منه ذريعة باطلة وفاسدة لجرائمها وآثامها.. وكان يمكن ببساطة سحب هذه الذرائع طالما أن الموضوع سيصل إلى 27 فقط. وأنا لن أتحدث عن أى أحكام أخرى لم يتم نقضها حتى لا أدخل تحت دائرة التدخل فى أعمال القضاء أو ما شابه ذلك. أما حركات الإسلام السياسى المصرية فلم يتعلموا من دروس التاريخ الذى عاشوه وعانوه من قبل وأولهم الذين يحرقون المحاكم والنيابات أو يغتالون وكلاء النيابة أو يستهدفون القضاة. فقد قام النظام الخاص من قبل بتفجير محكمة الاستئناف.. ثم قتلوا القاضى الخازندار بعدها.. فأدى ذلك إلى أسوأ كارثة حاقت بالإخوان فى الأربعينات وكان مقدمة لحلها. فالتعدى على القضاء أو القضاة.. فضلا عن حرمته وجرمه فهو يؤدى إلى أسوأ الآثار وهو يحشد الجميع ضد هذه الجماعات، الدولة والشعب والمؤسسات والخارج والداخل. إن الإسلام السياسى المصرى لم يتعلم من دروس الماضى فقد جرب مغبة خصومته دون مبرر مع القضاء بعد ثورة 25 يناير.. ومغبة حصار المحكمة الدستورية.. أو التطاول على بعض القضاة.. فخسر الكثير والكثير.. وكان هذا هو المسمار الأول فى نعشهم ونعش حكم د/ مرسى. وهذه أنصار بيت المقدس الداعشية تكرر مأساة الأربعينات حينما تغتال ثلاثة من شباب غض برىء من وكلاء النيابة الذين لا خصومة لهم مع أحد وليسوا طرفا فى معركة سياسية.. والداعشيون السيناويون لا يعرفون عنهم شيئا. لقد قاموا بذلك ظنا منهم أن ذلك سيخوف القضاة والقضاء أو أنه سيجعلهم يخفقون الأحكام.. وهذا وهم كبير وخطأ تاريخى متكرر. إن الدماء تجر الدماء والقتل يجر القتل والعنف يولد العنف وأفضل شىء لمن ظلم فى حكم قضائى أن ينتظر عدالة السماء فى حكم الاستئناف والنقض لأن القضاء فى أحواله الطبيعية يضبط نفسه بنفسه ويراجع نفسه بنفسه. فإن لم ير العدل والإنصاف فى الحكم النهائى فليصبر وليحتسب منتظرا عدل السماء وإنصاف الإله العادل فى الدنيا والآخرة.. ومنتظرا دورات الزمان التى تنصف المظلوم لا محالة.. ويوقن أن الدنيا بطبيعتها ليست بدار عدل ولا حق مطلق فهى نسبية فى كل شىء.. أما العدل والحق المطلق فى الآخرة وحدها. إننى أقول مطمئن النفس والضمير مخاطبا الدولة المصرية وحركات الإسلام السياسى المصرى معا: إننا لن نستطيع أن نحيا حياتنا مرتين أو نعيش أعمارنا مرتين.. عمر نجرب فيه ونخطئ.. وعمر نتعلم فيه من أخطائنا.