د. فهد بن عبد الله الحويماني الاقتصادية - السعودية لدى هيئة السوق المالية جهود متميزة في ملاحقة ومعاقبة الأفراد الذين يقومون بتقديم المشورات والتوصيات على أسهم الشركات المدرجة في السوق السعودية، يتمثل ذلك في قيام الهيئة برفع دعاوى قانونية على هؤلاء الأفراد، لكونهم يزاولون أعمالاً من أعمال الأوراق المالية دون ترخيص، ومن ثم تقوم لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية باتخاذ قرارات بحقهم، يتم عرضها فيما بعد على لجنة الاستئناف التي غالباً تؤيد قرار لجنة الفصل، ويتم فرض غرامات مالية على المخالفين عقاباً لهم. لا شك أن حرص الهيئة على تطبيق نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية أمر مطلوب ويقع في صلب اختصاصات الهيئة، غير أن هناك حاجة ماسة إلى ضبط أولويات الهيئة وتوجيه جهودها في المسار الصحيح. أولاً إن مسألة منع الأفراد من تقديم المشورات والتوصيات ليست بذات الأهمية التي توليها الهيئة، ناهيك على أن هناك من يعتقد أن من حق أي شخص أن يبدي رأيه في أي سلع أو خدمات متاحة لعامة الناس في ساحة وطنية كبرى، كالأسهم، وذلك من باب حرية الرأي. صحيح أن مزاولة كثير من الأعمال يتطلب الحصول على تراخيص مناسبة، ويشمل ذلك الأعمال المالية، إلا أن أهداف سن هذه التشريعات هي في الأغلب ثلاثة: (1) اشتراط الترخيص سببه قانوني بهدف حماية مقدم التوصيات في حال تم رفع قضية تظلم ضده بشأن ما يصدره من توصيات ومشورة قد ينتج عنها خسائر مالية للمتلقين، (2) يهدف اشتراط الترخيص المبني على كفاءات وشهادات مهنية معينة إلى حماية الناس من التوصيات غير المبنية على أسس علمية ومهنية عالية، و(3) اشتراط الترخيص هدفه تجاري بحت، كون صناعة الأوراق المالية تنظر إلى الأوراق المالية كمنتجات خاصة بها، لا يسمح للناس العاديين الاستفادة منها في مزاحمة العاملين الرسميين في هذه الصناعة. أي من هذه الأهداف الثلاثة يقف خلف الاهتمام الملفت للهيئة في هذا الأمر؟ لا أعتقد أن الجانب القانوني هو المحرك لجهود الهيئة، كون التوصيات في العرف العام لدى المتداولين تظل توصيات شخصية معرضة للخطأ والصواب يأخذ بها الشخص طواعية بحسب تقديره لأهمية وكفاءة من يقدمها، وإن كانت هناك نية للمقاضاة فالأولى أن تأتي المقاضاة ضد من لديه ترخيص لمزاولة المهنة، لا ضد شخص عادي لا يوجد عليه ممسك قانوني. إذاً هل بالفعل يؤدي اشتراط الترخيص إلى حماية المتعاملين من مضرة المشورات والتوصيات غير المهنية، كما في الهدف الثاني أعلاه؟ إن خطورة منح التراخيص من قبل الهيئة لمن يقوم بتقديم التوصيات تتمثل في كونها تمنح ستاراً وهمياً من الموثوقية لمن يقوم بتقديمها، تجعل المتداول العادي يثق في قرار الشخص "المرخص" على الرغم من أنه علمياً ومهنياً لا يمكن تقديم توصيات مؤكدة وناجحة. إذاً فالأولى بالهيئة أن تنأى بنفسها عن أي انطباع يوحي بنظامية ما يقدم من توصيات ولا بجودتها ولا بكونها أفضل من التوصيات العشوائية، وتترك للناس حرية اختيار من يثقون فيه بأنفسهم. نأتي إذاً إلى الهدف الثالث وهو الهدف التجاري البحت، الذي من خلاله تمنع الهيئة المتداولين الأفراد من تقديم المشورات والتوصيات حماية للعاملين الرسميين في هذا المجال. هل تهدف الهيئة في قصرها للتوصيات على من تصدر لهم التراخيص - بمقابل مالي للهيئة بالطبع -لكي يتم توجيه ما يتحقق من إيرادات من مجال التوصيات إلى هؤلاء الأشخاص المرخصين فقط دون من سواهم؟ وهل توصيات الأشخاص المرخصين أفضل من توصيات غيرهم من المهتمين؟ الحقيقة أن الأشخاص المرخصين بعمل المشورات والتوصيات يقومون بشكل دائم بنشر توصياتهم على أسهم محددة، تشمل توصيات بالبيع أو الشراء مع تحديد نقاط سعرية مستهدفة للسهم. وفي كثير من الحالات تكون هذه التوصيات خاطئة، وأحياناً بشكل كبير ومعاكس للتوصية. إذاً ما الفائدة من ترخيص الهيئة إن كانت توصيات الأشخاص المرخصين لا تختلف عن أي توصيات أخرى؟ إذا كان الهدف هو بالفعل حماية المتعاملين في سوق الأسهم، أليس من المفترض أن تكون هناك مراقبة لتوصيات الأشخاص المرخصين قبل غيرهم، منعاً من استغلالهم لما يتمتعون به من غطاء قانوني لتحقيق أرباح مالية لأنفسهم؟ هل حدث أن سمعنا أن الهيئة لديها آلية لمراقبة تلك التوصيات، أو أنها تتابع عمليات الشراء والبيع التي يقوم بها هؤلاء المرخصون قبل كل توصية وبعدها؟ هل قامت الهيئة بتصنيف هؤلاء المرخصين بين محللين مستقلين وآخرين تابعين لدور وساطة وآخرين تابعين لصناديق استثمارية، وبينت دوافع كل فئة وإيضاح ذلك أمام المتلقين كافة؟ أليست المخاطرة أعظم في قصر التوصيات على عدد محدود من المرخصين، بالشكل الذي يمكّنهم من استغلال قاعدة المتابعين لهم في تحقيق أرباح كبيرة لمصلحتهم، مقارنة بتبعثر التوصيات بين عدد كبير من الأشخاص؟ المشكلة الحقيقية ليست فقط في من يقدم توصيات بمقابل مالي دون ترخيص، بل إنها موجودة بشكل أكبر وأخطر في من يقدم توصيات بدون مقابل مالي ودون ترخيص، ويحقق مكاسب كبيرة عن طريق استباق أوامر التابعين، من خلال أسلوب ما يعرف بالنفخ ثم الإطاحة. هنا يقوم مقدم التوصية (بمقابل مالي أو بدونه، برخصة أو بدونها) بالإشادة الكاذبة بأحد الأسهم التي سبق له أن اشترى كمية كبيرة منها، ومن ثم بعد توالي المتعاملين على شراء السهم وارتفاع سعره، يقوم الشخص ببيع ما سبق أن اشتراه محققاً أرباحاً خيالية. مثل هذه التجاوزات نلحظها كثيراً في سوق الأسهم السعودية، حيث يمكن مشاهدة الحركات المريبة لبعض الأسهم عقب صدور "توصيات" أو إشاعات في أحد المنتديات أو فور صدور أحد التقارير المالية من أحد الأشخاص المرخصين. أعتقد أن حماية المتعاملين تتحقق في ضبط مثل هذه التجاوزات، بالتوعية وغيرها من الطرق، أكبر بكثير وبفعالية أعلى من معاقبة فرد بسيط لديه حفنة قليلة من المتعاملين راضية بتوصياته ومشوراته. أعتقد أن تسخير جهود الهيئة في جانب هامشي ليس له علاقة بحماية المتعاملين فيه من تبديد الجهود الشيء الكثير، وفيه أنه يُظهر بشكل زائف أن بقية الأمور مسيطر عليها، وأن أكبر ضرر يقع على المتعاملين هو نتيجة توصيات البسطاء من الأفراد، الذين ستضربهم الهيئة بيد من حديد جزاء لهم وردعاً لأمثالهم، وستفرض عليهم عقوبات مالية - لا أحد يعلم كيف يتم تحديد مقدارها- ومن ثم ستودع ما يستقطع منهم من أموال في حساب الهيئة.