الاقتصادية - السعودية توافينا هيئة السوق المالية بين الحين والآخر بقرارات جزائية بحق صغار المتعاملين من منطلق أن ذلك يأتي في سبيل تطبيق نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية وحماية المتعاملين في السوق من الممارسات غير المشروعة. ومن منا سيعترض على تطبيق النظام أو حماية المتعاملين من الممارسات غير المشروعة؟ ظاهرياً هذا صحيح، ولكن هناك عدة مآخذ على أداء الهيئة، تشمل (1) سوء تفسيرها لنظام السوق المالية نفسه، و(2) سوء لائحة سلوكيات السوق، و(3) الخلل في تركيبة لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية ولجنة الاستئناف. نتيجة لهذه الأخطاء نجد أن الهيئة تصب جام غضبها على أمور هامشية، مثلاً فرض غرامات على الشركات المدرجة نتيجة أمور شكلية في طريقة الإفصاح أو إجراءات الحوكمة أو توقيت إعلان هامشي وما إلى ذلك، وإن لم تجد ما تدينه في هذا المجال اتجهت لمساءلة الشركات التي ارتفعت أسهمها كثيرا ومعاقبة المضاربين الذين يقومون بأعمال مضاربية معروفة في كل مكان. وإن كان لديها متسع من الوقت تقوم بملاحقة أفراد بسطاء يقومون بعمل توصيات على الأسهم في المنتديات الإلكترونية، بينما تتغاضى تماماً عن كبائر الذنوب المتعلقة بصحة البيانات الواردة في النتائج المالية، وجرائم التداول المبني على معلومات داخلية، ودوافع توصيات المؤسسات المالية، المرخصة وغير المرخصة. هيئة السوق المالية بهذا النهج أصبحت مثل هيئة مكافحة الفساد، التي اختزلت برنامج مكافحة الفساد الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين في مجرد تقصي صحة الإجازات المرضية والمحافظة على أوقات الدوام، هيئة السوق المالية بنهجها هذا كمثل جندي مدجج بأعتى أنواع الأسلحة والذخائر، ذهبت معظم سهامه في جوف زملائه وغيرهم من مدنيين ومسالمين. آخر قرار غير موفق لهيئة السوق المالية ما وافتنا به الأسبوع الماضي بحق فرد يقوم بإرسال توصيات لمشتركين لديه بمقابل مالي، والتي تبدو في ظاهرها أمام الرأي العام جهودا موفقة ومطلبا ملحا على الهيئة القضاء عليه، غير أنه في حقيقة الأمر حدث هامشي ليس له تأثير على سلامة السوق المالية وغير مخالف للمادة التي ذكرتها الهيئة في قرارها، علاوة على أنه من المستحيل ضبط هذا النوع من الممارسات، وكان الأحرى بالهيئة الاكتفاء بالتنويه بضرورة قيام المستثمر بتقصي الحقائق بنفسه وتحمل نتائج قراراته الاستثمارية. نأتي إلى التفاصيل كي تتضح الصورة أكثر. قرار لجنة الاستئناف المؤيد لموقف الهيئة بحق هذا الشخص استند إلى أن الشخص المدعى عليه مخالف للمادة الحادية والثلاثين من نظام السوق المالية. دعونا نقرأ هذه المادة القصيرة: "يقتصر عمل الوساطة على من يكون حاصلا على ترخيص ساري المفعول، ويعمل وكيلا لشركة مساهمة مرخص لها بممارسة أعمال الوساطة، ما لم يكن ذلك الشخص قد استثني من تلك المتطلبات حسب الفقرة(ج) من المادة الثانية والثلاثين". هنا الخلل في فهم النظام وتطبيقه، كون هذه المادة وما قام به الشخص لا يدخلان في مفهوم الوساطة إطلاقاً، حيث يظهر تعريف الوساطة في المادة الثالثة والثلاثين "يقصد بالوسيط شركة المساهمة التي تعمل بالوساطة ...". فكان الأحرى بلجنة الاستئناف عدم الاستناد إلى هذه المادة لعدم انطباقها، والاكتفاء بما ورد في لائحة أعمال الأوراق المالية، التي تقصر مجال تقديم المشورة على الأشخاص المرخصين. ومع ذلك، نجد هنا أن الهيئة بالغت في تفسير مادة اللائحة هذه، أو ربما نقول أخطأت في تفسير المادة هذه. لماذا؟ إن قصر تقديم المشورة على الأشخاص المرخصين، كما يعمل به في الأسواق المتقدمة ولا ننسى أن الهيئة أخذت نظامها ولوائحه من تجارب الأسواق العالمية، هدفه منع المنشآت التجارية من ممارسة أعمال الأوراق المالية دون ترخيص، وذلك بحجة أن هذه المنشآت التجارية تسعى للاستفادة من السوق المالية دون حصولها على ترخيص من الهيئة. وحتى هذه الجزئية ليست سليمة، ولكن لن أتطرق إليها في هذا السياق، بل أركز على أن هذه المادة لا تنطبق على الأفراد، سواء بمقابل مالي أو من دونه. ما وجه الاختلاف بين قضية هذا الشخص الذي يقدم توصيات بمقابل مالي، وأكوام التوصيات التي تعج بها منتديات الأسهم في كل مكان؟ هل فقط لأنها تتم بمقابل مالي لهذا الفرد؟ وهل سلامة السوق المالية التي تسعى هيئة السوق المالية إلى حمايتها تتوقف على كون التوصية بمقابل مالي أو من دونه؟ ثم دعونا ننظر إلى حجم الضرر الممكن حدوثه في حال قام بهذه التوصيات فرد صغير لديه حفنة قليلة من المشتركين، ونقارنه بحجم الضرر الذي يتكرر يومياً من قبل "أشخاص مرخصين" من قبل الهيئة، يقومون بنشر توصياتهم على أسهم محددة مع ذكر توصياتهم المحددة ببيع أو شراء أو احتفاظ وتحديد السعر المستهدف بالريال والهللة. هل حدث أن سمعنا أن الهيئة لديها آلية لمراقبة تلك التوصيات من شخوصها المرخصين؟ هل الهيئة تتابع (أو أنها تستطيع متابعة) عمليات الشراء والبيع التي يقومون بها قبل كل توصية وبعدها؟ هل قامت الهيئة بتصنيف هؤلاء المحللين بين محللين مستقلين وآخرين تابعين لدور الوساطة وآخرين تابعين للصناديق الاستثمارية، مع ضرورة التفريق بين دوافع كل فئة وإيضاح ذلك أمام المتلقين كافة؟ هل يجوز للجهات التي تقوم بدور متعهد التغطية والمستشار المالي تقديم توصيات لأسهم شركات تتعامل معها، أو سبق أن تعاملت معها؟ ثم هل لدى الهيئة القدرة على فرد عضلاتها على المؤسسات المالية "غير المرخصة" التي تعمل في دولة مصر ودولة الإمارات وغيرها وتبث توصياتها على مختلف الأسهم المدرجة وبمقابل مالي؟ هل معنى ذلك أن الهيئة تسمح للأفراد بتقديم التوصيات من خارج المملكة، خصوصاً أن شبكة الإنترنت تمحو عامل المكان والزمان؟ ما الذي يجعل الكسب من التوصيات على الأسهم السعودية مباحا لشخص يسكن في قطر أو في مصر أو في الهند، وحراما على فرد سعودي يقوم به من منزله؟ وهل الهيئة بعملها هذا تطمئننا أن التوصيات الصادرة من الأشخاص المرخصين من قبلها أحق وأفضل وأقل مخاطرة من التوصيات التي يقوم بها شخص غير مرخص؟ هل يحق لي كفرد سعودي المطالبة بالتعويض عن ضرر الأخذ بواحدة من توصيات أشخاص الهيئة، خصوصاً أن كثيرا من التوصيات خاطئة حتى النخاع؟ عند إصدار الأنظمة يجب أن تكون هناك نظرة شمولية لمقتضياتها والتأكد من سلامة التشريعات ودقتها ومدى قابلية تطبيقها وعدالتها، غير أنه للأسف نجد أن كثيرا من تصرفات الهيئة ليست إلا ذر رماد في العيون، تبدو في ظاهرها سليمة بينما هي في الحقيقة جهود في غير محلها، تؤدي إلى الإضرار بالمتعاملين وتجاهل لما كبر من أخطاء وجرائم مالية.