التقرير الكندية حوادث مثل الهجوم على حسينية الأحساء ورسومات الصحيفة الفرنسية التي شفعت بهجوم باريس، كلها نماذج على أحداث أعادت النقاشات المتشعبة حول حرية التعبير وحدودها. الكثير من هذه النقاشات يجنح لتبسيط هذه المسألة شديدة التعقيد عبر اختصارها في قواعد مطاطية واسعة مثل "حريتك تنتهي عند حرية الآخرين"، متجاهلين صعوبة وضع هذه القواعد العامة في صيغة تشريعات قانونية واضحة لا تضيق على حرية التعبير ولا يساء تفسير نصها ليستعمل في تبرير قمع الآراء المخالفة. وهنا بيت الداء: ما هي القوانين المثالية لتنظيم حرية التعبير؟ في البحث عن التشريع المثالي لحرية التعبير تبرز أسطورة تتكرر دائمًا في تلك اللحظة التي يستشهد فيها أحدهم بأنك في أمريكا يسمح لك بحرية التعبير ما لم تقل كلامًا عنصريًا أو تحريضيًا. هذه المعلومة غير صحيحة جملة وتفصيلًا؛ فالقانون الأمريكي يسمح لك بأن تحرض وأن تنشر العنصرية عبر وسائل الإعلام وعبر غيرها، بل وأن تحرض على العنف وعلى كسر القانون وأن تحرض على إسقاط الدولة ومؤسساتها ولو بالسلاح، والأمثلة الواقعية كثيرة؛ منها "رابطة الجنوب" الانفصالية، حيث يخطب قائدهم علنًا عن الاستعداد للقتال ضد الولايات الشمالية، ومثله العنصريون البيض المسيحيون والمتطرفون من أديان أخرى سواء كانوا من اليهود أو المسلمين أو السيخ أو غير ذلك، ومثلهم كذلك جماعة ال3% التي تروج علنًا لتسليح 3% من الشعب الأمريكي بهدف إسقاط النظام بالسلاح، ومنهم صاحب المحل الذي أثار الجدل مؤخرًا حين علق لوحة تقول: "أنا لا أدعم وصول الزنوج (واستعمل كلمة Niger التي تعتبر بذيئة وعنصرية في أمريكا) للبيت الأبيض" في إشارة لأوباما، انتقد مسؤول أمني اللوحة وقال لو كان بيدي لأزلتها. لكن الأمر ليس بيده، فالقانون يحمي حتى هذا النوع من التعبير في أمريكا. هناك سجل من الأمثلة القانونية الأمريكية التي أسست ورسخت هذه الحرية غير الاعتيادية في التعبير، أهمها القضايا التي وصلت للمحكمة العليا التي تعد أعلى سلطة قضائية، وأهم قضية وصلت لها في هذا الشأن هي قضية براندنبرغ ضد أوهايو في 1969 حين اعتقل كلارنس برندنبرغ، وهو من أعضاء جماعة الكوكلوكس كلان المتطرفة، بعد مسيرة للجماعة ألقوا فيها خطبًا تحرض على العنف ضد اليهود والسود. وتم الحكم فعلًا على براندنبرغ بالغرامة والسجن، فطلب نقل قضيته للمحكمة الدستورية وهو ما أدى لحكم تاريخي نال به براندنبرغ براءته وإطلاق سراحه، وفصلت المحكمة أن حق الإنسان في التعبير عن رأيه يشمل التعبير بطريقة تحريضية أو عنصرية، باستثناء وحيد وهو أن يكون هناك ما يشير إلى احتمال وقوع مخالفة آنية للقانون بسبب هذا الخطاب، فلو تجمهر متظاهرون أمام حكومي مثلًا وألقى أحدهم خطابًا يدعو لإسقاط الحكومة وتدمير مؤسسات الدولة؛ فهذا كله محمي بالقانون، ولكن لو استمر في خطابه وقال: "والآن فليحمل كل منكم حجرًا ويلقه على هذا المبنى الحكومي" فهنا قد يتعرض للتوقيف والمسائلة لأن هناك احتمالًا واضحًا أن يؤدي هذا النوع من الخطاب لكسر القانون بشكل آني. أما مجرد التعبير عن الرأي الذي يتضمن التحريض فهو ليس مخالفًا للقانون؛ لأنه على الأرجح لن يؤدي لكسر القانون بشكل آني، أي بحيث يكون نتيجة مباشرة وشبه فورية للتحريض. وضحت المحكمة الدستورية هذا الضابط بشكل أكبر في قضية هيس ضد ولاية إنديانا عام 1973، حين اعتقل متظاهر أثناء طرد الشرطة للمتظاهرين من شارع احتلوه بشكل مخالف للقانون فهتف أحدهم متوعدًا بأنهم سيستولون على الشارع مرة أخرى لاحقًا. أدين المتظاهر بتهمة التحريض على عمل غير قانوني ولكنه رفع الأمر للمحكمة العليا التي برأته ووضحت نطاق حكمها السابق في قضية براندنبرغ قائلة إن هتاف المتظاهر كان من الممكن أن يؤدي لكسر القانون بشكل آني. ولتوضيح ذلك يمكن الاطلاع على الآلاف من المواد العنصرية والتحريضية في أمريكا -كالمحرضين على مخالفة قوانين المخدرات مثلًا- وسنجد أن أمريكا زاخرة بهذه الأمثلة ولا تتدخل الدولة إلا حين تقع مخالفة للقانون، وحتى حين تقع لا يمكن محاسبة المحرض ما لم يكن هناك ربط جنائي بين الجريمة والخطاب، كالاشتراك في التخطيط للجريمة (ولذلك إطلاق تهديدات ذات طبيعة جنائية لا يعتبر خطابًا محميًا بطبيعة الحال، رغم وجود استثناءات لذلك أيضًا وموثقة قانونيًا مثل قضية واطس ضد الولاياتالمتحدة 1969 والتي برأت فيها المحكمة طالبًا هدد بقتل الرئيس الأمريكي جونسون لو أجبر على الخدمة العسكرية، حيث قالت المحكمة إن هناك فرقًا بين التهديد بشكله الجنائي المعروف وبين المبالغات الواضحة). في أمريكا أيضًا رواية عنصرية وعنيفة وهي "مذكرات تيرنر"، التي ألفها أحد العنصريين البيض وألهمت العديد من المتشددين البيض، وكان لها أثر على تيموثي ماكفاي الذي قام بتفجير أوكلاهوما 1995 وأودى بحياة 168 شخصًا. الرواية لا تزال تباع ويمكن اقتنائها بسهولة إلى اليوم، والمؤلف لم يتعرض للمسائلة بسبب كتابته لها، بل وأثنى على ماكفاي وكتب رواية أخرى أهداها لقاتل متسلسل كان يستهدف قتل البيض الذين يقيمون علاقات غرامية مع غير البيض. فرغم وجود علاقة بين كتاباته وأعمال عنف؛ لكنها ليست ذات طبيعة جنائية ولا فورية. ناهيك عن كتاب "كفاحي"، لأدولف هتلر، الذي يعتبر من الكتب المقدسة والملهمة لدى هؤلاء، وهو أيضًا غير ممنوع في أمريكا، علمًا أن الحركات النازية موجودة في أمريكا ولها تجمعات وأغانٍ وظهور إعلامي، ويتحدثون بلغة عنصرية عن السود واللاتينيين واليهود وغيرهم دون أن يواجهوا مشاكل قانونية بسبب هذا الخطاب. الخلاصة أن الحالات التي لا يحميها القانون الأمريكي قليلة جدًا. هذا النموذج مترسخ في روح القانون الأمريكي؛ حيث لكل دولة فلسفة قانونية وإرث قانوني تستند عليه، وفي أمريكا تعتبر وثيقة الدستور أهم وثيقة مؤسسة للكثير من قوانين الجمهورية إلى يومنا هذا. والعديد من الدول لن تنجح لديها تشريعات زيادة حرية التعبير نجاحًا كاملًا لأن ذلك سيخالف روح قوانينها وإرثها من التشريع والقضاء، بمعنى أن حتى القضاء قد يتشدد في تفسير هذه التشريعات لو تم إقررها لأن خلفيته لها دور في حدود الأحكام التي سيصدرها. هذه نبذة عن الفلسلفة القانونية لحرية التعبير في أمريكا، وهي مختلفة عن الكثير من دول العالم بما فيها عديد من الدول الأوروبية التي تخضع حرية التعبير في الكثير من دولها لضوابط غير موجودة في الحالة الأمريكية (وهنا رصد جيد لبعض الأمثلة القانونية الحديثة في أوروبا حول خطاب الكراهية). فإذا أردت أن تتحدث عن أمريكا أو أي دولة أخرى فلا تشغلنا بحديث عن أمريكا المتخيلة في ذهنك، مثل حديث البعض عن "داعش المتخيلة" كما أسميتها في مقالة سابقة. ومن المهم هنا التأكيد على أن وجود هذا الجانب النظري لا يعني أن الجانب التطبيقي ممتاز، فالحكومات الأمريكية المتعاقبة مارست ولا تزال مخالفات جسيمة للدستور ولحرية التعبير بما فيها فضائح التجسس الأخيرة. حديثي هنا عن النصوص القانونية وليس عن التطبيق. ومن نافلة القول إن ازدواج معايير حكومات الغرب لا شك فيه، أنا أتحدث هنا عن تحليل التشريعات في دول أخرى كي نستفيد منها. قضية حرية التعبير تتمحور حول ما هو دور الدولة وحدود تدخلها، ومسألة دور الدولة متعلقة بتحديد ما هي الخطوط الحمراء التي تبيح للدولة التدخل في حال تم تجاوزها، وهنا لب المشكلة. بل حتى حين يتم تحديد حدود حرية التعبير ستبرز "مشكلة لكن"، أي حين نقوم بإنزال القانون على أرض الواقع سنجد أن الكثير من الحالات لا تتطابق بشكل كامل مع القانون، وبالتالي تفتح الباب للاستدراكات. النقاشات التي تلت قضية حمزة كشغري مثال واقعي لذلك، كنت تجد العديد من الحوارات تسير هكذا: "أنا مع حرية التعبير لكن هذا الكلام تجاوز الحدود/ أنا ضد إهانة المقدسات لكن كلام حمزة لم يكن فيه إهانة/ أنا ضد ما كتبه حمزة لكن لا أوافق أن يؤدي ذلك للاعتقال/ أنا مع مسامحة حمزة لأنه اعتذر وتاب، لكن هذا يفتح الباب لكل شخص يريد أن يهرب من العقاب أن يعلن توبته وحسب... إلخ". حين ننزل للواقع سنجد أن كل مبدء نضعه لحرية التعبير له استثناءات والكثير من "مشكلة لكن". عودة لحرية التحريض: إذا كانت روح القانون الأمريكي واسعة لدرجة احتواء كل أنواع الخطاب التحريضي، فما هي الروح القانونية للفقه الإسلامي؟ سؤال صعب وليس لمثلي إجابة عليه، ولكني أشير لمسألتين: الأولى أن الإعلام ليس له التأثير السحري الذي يتصوره البعض (تطرقت لذلك في مقال سابق) ولذلك يجب أن لا نصل للهلع من أي تحريض، وأن ندرك أن سبب انضمام شباب لجماعات إرهابية له جذور أعمق من مجرد التأثر بخطاب إعلامي هنا أو هناك. والثانية هي أن ننظر للإرث السياسي والقانوني لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمثلما يعتبر النموذج الأمريكي مثيرًا للاهتمام والتفكير؛ فكذلك النموذج العلوي في التعامل مع الخوارج قبل أن يرفعوا السلاح، فالمشهور أن سيدنا علي لم يبدء الخوارج قتالًا ولم يتخذ ضدهم إجراءً إلا بعد أن صدر منهم القتال، أما قبل ذلك فقد كانوا يجاهرون بآرائهم المتطرفة حتى قيل إنهم كانوا يقاطعونه وهو يخطب في المسجد صائحين: "لا حكم إلا لله" فلا يعاقبهم، فجاءت حربه لاحقًا عليهم كرد على عدوانهم وليس على آرائهم. روي عن سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه في بداية الخوارج تجمعوا بالآلاف في دار وأجمعوا على أن يخرجوا على أمير المؤمنين "فكان لا يزال يجيء إنسان، فيقول: يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك. فيقول دعوهم؛ فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون"، أي أنه ترك لهم حق التجمع والتحزب والتخطيط مفتوحًا ولا ينالهم شيء إلا حين يتحول ذلك لفعل مخالف للقانون. كانت سياسته هي أن يطبق القانون ضدهم حين يكونوا مستحقين لذلك فقط وانطبقت عليهم الشروط، رغم يقينه بأنهم فعلًا سيقاتلوه كما قال. ومما اشتهر أيضًا عن سيدنا علي قوله للخوارج: "لكم علينا ثلاثة: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا"، وقوله عن الخوارج قبل رفعهم السلاح: "قومٌ رؤوا رأيًا فدعوهم وما رؤوا". فهذا نموذج راشدي لإعطاء حرية واسعة للتعبير ما لم يتحول لفعل مخالف للقانون، والله أعلم. البحث عن التشريع الأمثل لحرية التعبير وعن تأسيس الفلسفة القانونية الملائمة التي تحميها مؤسسات قضائية ذات جودة وكفاءة عالية هو الأساس الذي يجب أن لا نتجاهله في بحثنا عن حلول لقضايا الحريات بشكلها المعاصر.