عبدالله العودة التقرير الكندية في الأجواء الجاثمة على العالم بعد أحداث فرنسا، تَرِدُ كثيرًا عبارات رمزية لها دلالة حضارية غاية في الأهمية والخطورة، تحاول تعميم صفات العنف والإرهاب بشكل معين، وتحاول ترسيخ صورة نمطية لها افتراضات مسبقة حول الثقافة العربية والإسلامية، وأحيانًا الشرق بكل صخبه وتعدديته واختلافاته ومفارقاته. تلك التعبيرات النمطية يستخدمها متطرفون غربيون أحيانًاً متدينون، وأحيانًا تصدر من متطرفين لادينيين، تحاول وصم ثقافة كبيرة بنصوصها وتأويلاتها وتعدديتها ومدارسها ب"البربرية" و"البدائية" و"الهمجية" و"الشهوانية"، لدرجة اختصار كل أسباب العنف بالعامل الجنسي والكبت، وقصة ال"سبع وسبعين عذراء"، التي يعتقدون أن من يمارس العنف ضدهم يفعل ذلك من أجل هؤلاء العذارى في محاولة اختصارٍ جنسي لكل الدوافع والأسباب العميقة للعنف تجاه الغرب. أعتقد أن كل تلك التفسيرات هي جزءٌ من رؤية الغرب لنفسه حينما يفشل في فهم المجتمعات الإسلامية بتعدديتها وثقافتها وقيمها الحضارية المختلفة؛ لذلك، فهو يتعامل مع هذا الآخر (الذي هو الإسلام والمسلمون هنا) ويحاول فهمه ضمن قيم الغربي نفسه وضمن أولوياته المادية و"الطبيعية"، وهي التي يسميها المسيري رحمه الله ب"الإنسان الطبيعي" ويعني به أن الغرب يتعامل مع الإنسان كجزء من الطبيعة، وأن طبيعته تلك وماديته وقيمه المادية والنفعية والمصلحية والجنسية والجسدية هي التي تحكمه؛ وبالتالي، يفسر الآخرين من خلالها ويتوقع أن الآخرين يفعلون ذات الشيء، فهو لايدرك تلك الدوافع القيمية وراء الأشياء والدوافع الأخلاقية للأفعال والتصرفات والسياسات وردات الفعل. وبالطبع، فإن كل ذلك رغم تعميميته الكبيرة إلا أنه مؤشر مهم لسلوك حاضر وطاغ في الدوائر الغربية السياسية بالتحديد، وأحيانًا الثقافية. بالمقابل، هذا الإنسان الغربي "الطبيعي" له وجه أكثر "طبيعية"؛ بل الوصف الحقيقي له هو أنه وجه "قذر" وليس طبيعيًا؛ لأنه يحاول أن يطبّع تلك القذراة لكي يجعلها مقبولة ومتوقعة ومشاهدة، ويتعامل مع السلوك البربري البدائي اللاأخلاقي الذي يعرضه بشكل مستمر في شاشاته ودوائره على أساس أنه شيء طبيعي تمامًا وسلوك متجلٍ مكشوف. وسأضرب لهذا مثالًا واحدًا: قبل عدة سنوات صدرت سلسلة أفلام في أمريكا وكانت مشاهدةً بشكل واسع تحكي مقالب واقعية غير مصطنعة في الغالب أو هكذا تبدو، وتحمل عنوان "المغفل/jackass" صدر منها -حسب ما أعرف- إلى الآن خمسة أجزاء. هذه الأفلام في غالبها تقوم على مقالب، ولكنها من النوع المنحطّ الذي قد يَعْرِض الإنسان في أسوأ مراحله النفسية والجسدية، ويقدّم القذارة التي لايتورع الممثلون أو بالأصح المؤدّون فيها عن استخدام حتى الحشرات واللحظات المؤذية للإنسان والأماكن الحساسة والمغطاة لأجل استخدامها بأسلوب يفاجئ المشاهد؛ كي يصنعوا مقلبًا يستفز المشاهدين، ويُضْحِك بعضَهم! تلك المشاهد قد لا أجرؤ على حكايتها والحديث عنها بنفسٍ طيبة، فهي أكثر فجاجة من قلمي الخجول، ولكني سأشير بشكل مقتضب لعل خيال القارئ يسعفني؛ لكي يفهم مستوى ذلك الانحطاط والوجه البربري للإنسان الغربي المعاصر. لحظات ذلك المسلسل تركّز على كيفية استفزاز المُشاهد باللحظات القذرة، عبر توظيف "القيء" مثلًا أعزّكم الله في سياق مقاطع مختلفة وتقديمه بصورة تجعله كأنه شيء طبيعي ومقبول بل ومتناول!، وفي ذات المقاطع يتم تقديم مخرجات الإنسان القذرة وكأنها أشياء تبعث على الضحك والمتعة والتسلية! مشاهد كثيرة تقوم بشكل أساسي على أشكال مختلفة من توظيف القذراة بشتى أشكالها وبطريقة حيوانية؛ بل أقل من حيوانية، وفي طريقة يشاهدها الملايين في أمريكا وأوربا لكي يستمتعوا بكل تلك المشاهد ويضحكوا حولها؛ بل أصبحت بعض تلك المقاطع الأكثر قذراةً ووحشية مناسبة لكي يفاجئ أحد الأفراد عائلتَه ليرى ردة فعلهم حولها، وربما تم تسجيل ذلك في مقطع مرئي وعرضه للمشاهدة ليصبح بدوره مناسبة أخرى للمتعة والضحك. تعميم تلك المشاهد ونشرها ومشاهدتها وقيام أفلام كاملة معتمدة بشكل أساسي على مثل هذا، شجّعت أفلام الضحك وأفلام الحركة على استخدام لقطات مختلفة تطبّع أسوأ لحظات الإنسان بشكل مستمر وفي لقطات ومقاطع مختلفة وفي أفلام مختلفة حول قضايا مختلفة كلها تحمل لقطات معينة، يتقصّد المخرجون تطبيع لحظات الإنسان الدنيا الشبيهة بالحيوان وتقديمها كمشاهد طبيعية تستحق النظر والاستمتاع والضحك. كل ذلك، في مجال واحد هو فقط في الوجه القذر لذلك الإنسان الغربي "الطبيعي"، ماذا لوتناولنا كيف تعامل هذا الإنسان نفسه في قضايا الحروب العالمية والمحلية، وقضايا عصابات السلاح وعصابات المخدرات.. إلخ إلخ؟ القصة هنا فقط هو أن نعرف ذلك الوجه البربري وذلك الإنسان القذر الذي يسكن جوف ذلك الغربي المعاصر، ولهذا الإنسان تجليات حيوانية مختلفة، لن يكون من آخرها قراءة أفعال الآخرين وحضارتهم ضمن هذا السياق والتأويل.