الوطن - السعودية "علاج التطرف والإرهاب الديني ليس في استحداث خطاب ديني مضاد، إنما في تشويهه كفكرة، فقد تغلب الغرب على النازية حين جعلها فكرة مشوهة قبيحة، لقد شوه الغرب صورة النازية بالفعل لا بالكلام، بمحاكمة كل من أسهم في إذكائها" كلما قامت عصابة أو جماعة إسلامية متطرفة "سنية أو شيعية" بعمل إرهابي، ذهب المسلمون إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه يؤيد، واتجاه يستنكر وهذان الاتجاهان طبيعيان في ظل الظروف الراهنة، إنما الاتجاه الثالث هو غير الطبيعي أبدا، وهو الاتجاه الذي يبدأ فيه البعض بصدمة ثم تتبع الصدمة حالة ذهول تتركهم في حيرة وارتباك كأنهم كانوا في حالة سبات عميق خلال العقود الماضية، كأنهم من بعد هذا السبات استيقظوا فجأة ليتفاجأوا بكل هذا القتل والترويع والتفجير ثم بدؤوا يتساءلون وهم مندهشون: من أين جاء المتطرفون؟! أعزائي المستغربين، هل كنتم تتوقعون مثلا أن تقوم الجماعات المتطرفة بتوزيع الورود في الطرقات؟!، هل كنتم تنتظرون من أحد المتطرفين أن يقوم بإنقاذ قطة عالقة بين الأغصان؟!، لماذا الاستغراب؟!، إن استغرابكم هو ما يدعو إلى الاستغراب، وليس هذا التطرف الذي بتنا نشهده كل يوم وليلة، بل إن المسلم بات يستغرب إن مضى يوم كامل ولم يحدث فيه قتل أو تفجير أو قطع رقاب، سيتساءل حينها مستغربا: لماذا لم يحدث شيء هذا اليوم؟. لقد ظللنا على مدى عقود نزرع الشوك فكيف نتفاجأ ونستغرب من جني الجراح؟!، هل كان المستغربون ينتظرون حدوث معجزة تقوم بتحويل الشوك إلى ياسمين؟!. أعزائي المستغربين، خلال سباتكم الطويل حدث أن تم استحداث دين جديد، دين موازٍ لدين الإسلام، يحاذيه ولا يلتقي به، فقهاؤه يشحنون أتباعهم بالتعصب والكراهية، دعاته ينشرون ثقافة التوجس والحيطة من كل شيء، علماؤه قاموا بإلغاء العقل وزندقوا من يتمنطق ثم بدأوا في الشرح والتفسير، النهج العلمي فيه قائم على التلقين وتحريم الفضول، الكل فيه يطوف حول القبور، يتغنى بعضهم بالموت ومن كان صوته نشازا أخذ يُنفِّر من الحياة. هذا فقط ما حدث خلال سباتكم الطويل. الوطن والوطنية في هذا الدين الموازي مفاهيم محل إعرابها دائما الكفر البواح، فإن كانت الوطنية كفرا بواحا إذاً تمزيق الوطن من الواجبات، بعضهم يقول تخففا: لا بد أن يكون الانتماء للإسلام أولا ثم الوطن، وكلنا نتفق مع هذا الرأي إلا أننا حين نبحث خلف حقيقة هذا الرأي سنجد المقصود بالإسلام هو فقط الانتماء إلى الحزب أو المذهب أو الطائفة، وكل شيء خارج هذا الإطار كفر بواح، وهكذا فصلوا الإسلام ثم فصلوا الوطنية ثم فصلوا الأخلاق، وحين أعجبهم التفصيل أخذوا يفصّلون الجنة لتكون حسب المقاس، إلا أنهم تعمدوا ترك النار فضفاضة لتلفح الجميع بلا استثناء. أعزائي المستغربين، إن الأعمال التي تنفذها الجماعات الإسلامية "سنية وشيعية"، هي النتيجة المنطقية فلا تستمروا في الاستغراب أكثر، هذه هي الحقيقة، نحن نجني اليوم ما زرعه المتطرفون على مدى عقود، "داعش" وما تفعله من تكفير للجميع وقتل في الجميع وإحياء للبربرية والهمجية ليست هي الجرح الذي نجنيه من زرع المتطرفين للشوك، إنها القيح الذي يعلو الجراح. وللأمانة، إن هذا الدين الموازي لم ينسَب ويتسلل إلا لأنه وجد أمامه فراغات نحن من أوجدها، إن التطرف والإرهاب الديني موجودان في كل الأمم، تطرف المسيحية واليهودية قد يكون أشد همجية لكنه ليس فاعلاً هناك لأن المدنية عندهم أكثر تماسكا، المدنية هناك تتضاءل فيها الفراغات للدرجة التي تخنق التطرف، بينما الفراغات في الوطن العربي متضخمة لدرجة أصبحت فيها المدنية هي التي تختنق! هذا هو الفرق. والعلاج ليس في استحداث خطاب ديني مضاد، ليس في إبعاد التطرف إنما في تشويهه كفكرة، فقد تغلب الغرب على النازية حين جعلها فكرة مشوهة قبيحة، ولو أنه انتصر عليها عسكريا فقط لعادت النازية ألف مرة ولظل الغرب إلى اليوم في صراع معها، لقد شوه الغرب صورة النازية بالفعل لا بالكلام، بمحاكمة كل من أسهم في إذكاء النازية وإن بالكلمات والصور، انتصروا على النازية بالارتقاء بالتعليم، بتفعيل دور المؤسسات والحث على الديموقراطية أكثر، بالعدل الاجتماعي، لقد انتصروا عليها بأن حولوا واقعهم لشيء جميل، شيء يستحق عناء التمسك به والحفاظ عليه. لا بد وأن تكون الدنيا هي بوابة العبور للنعيم، لا بد أن يكون إعمار الأرض هو عنوان الجنة، أو سيستمر الحل دائما أعرج. إن دنيا شبابنا معطلة، لا فن فيها ولا ترفيه ولا عمل لهم إلا استراق السمع (سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكَلِمَ من بعد مواضعه) يُنصِتون لكارهي الحياة، وكيف لا ينصتون وأبواب الحوار معهم ليست كافية، وآراؤهم لا يستمع لها بطريقة لائقة؟، والنتيجة دماء تراق كل يوم حتى أصبحنا نستغرب إذا رأينا أحدنا يستغرب كلما أزهقت أرواح وأريقت دماء، قد ألفنا التطرف حتى أصبح الاستغراب منه محل استغراب.