المصري اليوم - القاهرة فى قلب القاهرة، وعلى بعد خطوات من ميدان العتبة، ينتصب تمثال إبراهيم باشا، مشيراً بإصبعه للأمام فى حسم، يليق بقائد فى عظمته. التمثال خلّد لحظة نادرة، لحظة اتخاذ القرار وإصدار الأمر. على أيامه، كان القائد يبذل مجهودا لتوجيه أتباعه. فى كل مرة يصدر فيها أمراً، يرفع ذراعه كلها، ويقبض أصابعه إلا واحداً، (هو السبابة فى الأغلب) ليشير لهم ويقول: اهجموااا. تطورت الدنيا، وتعين على القائد أن يطور مهاراته. كثرت المهام وتعقدت شؤون الدولة بما لا يتناسب مع أن يرفع ذراعه ويشير بإصبعه مع كل أمر. الأسهل والأكثر كفاءة ربما.. أن يغمز، وهو أمر، فى دولة بحجم مصر، قد يصبح مجهودا فوق طاقة البشر. الإدارة بالغمز مسؤولية لا يتحمل تبعاتها الغامز وحده. هى أيضا عبء على الملتاع المتلهف دائما على غمزة تحدد له ما ينبغى عليه أن يفعل، أو يقول، أو إلى أين يتجه. عليه التقاطها بسرعة، مهما كانت خفيفة أو مبطنة أو عابرة. وهو ما قد يتسبب فى وقوع أخطاء هنا أو هناك، إما بسبب خفة الغمزة أو حدة الوله. الإدارة بالغمز من خصوصيات ثقافتنا، ولا علاقة لها بمفاهيم الإدارة التى تُبنى فيها الأفعال على تحليل المشاكل، وحساب المخاطر، والبحث عن حلول. وهو ما يفسر خروج نتائج منظومة الغمز غالباً عن أى سياق منطقى. خذ مثلاً بث تليفزيون المغرب تقارير تعرّض بالنظام المصرى وتصفه بالانقلاب العسكرى. لو حدث هذا فى يوليو عام 2013 لكان مفهوماً. أما أن يحدث بعدها بعام ونصف العام، وفى برامج تغطى الأحداث «الجارية»، فلا يُفهم إلا فى إطار غمزة، حقيقية أو مفترضة. وشبيه بهذا ما حدث على جانبنا من إهانة للمغرب من مذيعة «أون تى فى»، التى فهمت، ربما خطأ، أن هذا هو التوجه، وهو ما اعتبر خطأ يهدد استثمارات عائلة ساويرس فى المغرب فانهالت الاعتذارات من المحطة والدولة، حتى تم تجاوز الأزمة. ومن أبرز أمثلة التوجه بالغمز، ما حدث أثناء الخلاف القطرى- المصرى. قطاع واسع من الإعلاميين افترضوا وجود غمزة تؤذن بهجوم، فانهالوا بالسباب على قطر، وأميرها، وكل من طالته ألسنتهم فى الإمارة حتى فاجأهم رئيس الجمهورية باعتذار للأمير عما صدر من إعلاميى مصر من إساءة لوالدته، وهو ما اعتبره المغموز لهم إشارة أقوى، فتغيرت اللهجة، ثم تحول القدح ليناً، والهجاء تعقلاً، بعد أن منّ الله علينا بالصلح. وكله بالغمز أو بافتراضه. المثير للدهشة أن الغمز لا ينتج عنه فعل خير. وإنما يفسره المغموز لهم دائما باعتباره دعوة للشر والضرر، فتتزايد، دونما أمر واضح، معدلات التكدير، والتعذيب، والاعتقال العشوائى، والتنكيل بالمعارضين، ومؤخراً مصادرة أموالهم بدعوى أنهم إخوان. وهو تدهور يصعب أن تعزى أسبابه إلا إلى غمزة مفترضة. لماذا لا يحدث العكس مرة؟ لماذا، مثلا، لا يفسر الخطاب الودى من قبل الرئيس تجاه الشباب باعتباره غمزة، يتبعها إطلاق سراح المحتجزين ظلماً، والمحبوسين من الطلبة، والمعتقلين فى إطار قانون التظاهر، وتعديل منظومة التعامل مع المواطنين فى الأقسام، ومحاسبة المدانين بجرائم تعذيب؟ عموما، إذا لم يَدْعُنَا كل ما تقدم إلى إعادة النظر فى الغمز كأسلوب حياة، فربما يحسن، ولو بشكل مؤقت، أن يكون الغمز أكثر وضوحاً، منعاً للبس، ورأفة بعباده المغموزين. [email protected]