(نظرات في النظام السعودي في ضوء القانون المقارن) د. أحمد لطفي السيد مرعي* موقع مقالاتي أولاً: التعويض في القانون السعودي: لم ينل الحق في التعويض عن التوقيف (الحبس الاحتياطي) التعسفي في النظام السعودي عناية كبيرة من المنظم، إذ جاءت عبارته في هذا الشأن مقتضبة جداً، ويلفها الغموض. فتنص الفقرة الثانية من المادة 217 من نظام الإجراءات الجزائية[1]على أنه: "... لكل من أصابه ضرر نتيجة ... إطالة مدة ... توقيفه أكثر من المدة المقررة الحق في طلب التعويض". وحقيقة فإن هذه الصيغة تطرح العديد من التساؤلات: فمن ناحية أولى، فإن النص لا يوضح ما إذا كان التعويض يقتصر على حالة إطالة أمد التوقيف فقط، كما هو صريح النص، أم يمتد أيضاً إلى التوقيف غير المبرر؟، أي الذي تنعدم مشروعيته منذ البداية من ناحية أسبابه[2]. ومن جانب أخر، فإن النص لم يحدد الجهة التي تتحمل التعويض، هل هي الدولة باعتبارها مسئولة عن الخطأ المرفقي الذي يقع من القائمين على تسيير مرفق العدالة؟ أم يتحمله من تسبب بخطئه الشخصي في إطالة مدة التوقيف؟ وأخيراً، فإن النص لم يحدد الجهة التي تفصل في طلب التعويض، ولا الإجراءات التي تتبع في هذا الشأن. والمؤكد لدينا أن أمر الاختصاص بنظر التعويض عن التوقيف التعسفي في النظام السعودي تحكمه بحسب الأصل الفقرة (ج) من المادة الثالثة عشرة من نظام ديوان المظالم الجديد[3]والتي تسند إلى المحاكم الإدارية بالديوان أمر نظر دعاوى التعويض التي يقدمها ذوو الشأن عن قرارات أو أعمال جهة الإدارة[4]. وهذه الحالة الأخيرة لا تخص الفرض الذي يثبت فيه أن غشاً أو تدليساً أو خطأً مهنياً جسيماً قد وقع بشأن تمديد التوقيف أكثر من المدة النظامية، إذ يكون الأمر هنا متعلقاً بخطأ شخصي لا يتحمله المرفق بالتعويض، ويختص بنظر تلك الدعوى الأخيرة القضاء العادي في المملكة ممثلاً في المحاكم العامة. ولا يمنع هذا الاختصاص الأصيل لديوان المظالم بنظر دعاوى التعويض عن التوقيف التعسفي في فهم المادة 217 من نظام الإجراءات من إمكانية تقديم طلب التعويض عن التوقيف بصفة عامة – ولو كان قانونياً – إلى المحكمة الجنائية التي تنظر طلب إعادة النظر في حكم الإدانة وفق ما تقرره المادة 210 من نظام الإجراءات الجزائية بقولها: "كل حكمصادر بعدم الإدانة - بناءً على طلب إعادة النظر - يجب أن يتضمن تعويضاً معنوياًومادياً للمحكوم عليه لما أصابه من ضرر إذا طلب ذلك". فحق التعويض وفق تلك المادة يمتد ليشمل كل مضرور من إدانة سابقة، أياً كان نوع العقوبة المقضي بها، وكل من تم توقيفه، بشكل قانوني أو غير قانوني إلى حين صدور حكم الإدانة، متى ثبت أنه قد نشأ ضرر عن أي من ذلك، وقد ألغي حكم الإدانة هذا لتوافر أي من الحالات الخمس لإعادة النظر المنصوص عليها في المادة 206 من نظام الإجراءات الجزائية. ويلزم في جميع الأحوال أن يتقدم المحكوم عليه بطلب التعويض قبل صدور الحكم القطعي بعدم الإدانة. وعلى ذلك، فإنه من تم إيقافه دون أن يعقب ذلك صدور قرار برفع الدعوى الجزائية عليه، وذلك لصدور قرار بحفظ الدعوى قبله، وكذلك من تم إيقافه ثم حكم ببراءته من المحكمة الجزائية (محكمة الدرجة الأولى)، وكذلك من صدر حكم ببراءته بناءً على طلب إعادة النظر ولم يكن قد تقدم بطلب التعويض لمحكمة الطعن قبل صدور الحكم بعدم الإدانة – وسواءً كان موقوفاً أم لا – يحق له اللجوء إلى المحاكم الإدارية بطلب التعويض عن الأضرار التي أصابته في هذا الصدد وفق المادة (13/ج) من نظام ديوانالمظالم. وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان يحق للمحكمة الإدارية أن تحكم بالتعويض عن مطلق التوقيف، بحسبان أن هناك ضرراً مفترضاً يتحقق من مجرد حرمان المتهم من الحرية، أم أن الأمر يوجب تثبت المحكمة الإدارية من اتصاف التوقيف الذي تم ممارسته قبل المتهم "بالتعسف"؟ وإذا انتهينا إلى ضرورة ثبوت وصف التعسف، فأي مفهوم يتقرر للتوقيف التعسفي في النظام السعودي الذي يقيد المحكمة الإدارية عند الحكم بالتعويض؟ في رأينا أن الإشكالية الحقيقية في النظام السعودي لا تتصل بمسألة الاختصاص بقدر ما تتعلق بمفهوم فكرة التعسف ذاتها حين تلحق التوقيف. فظاهر نص المادة 217 سالفة الذكر يحول دون تعويض الشخص الذي أوقف للمدة القانونية التي يسمح بها النظام[5]، ولو صدر في مواجهته بعد ذلك أمر بحفظ الدعوى (الأمر بألا وجه) من هيئة التحقيق والإدعاء العام، أو ثبتت براءته من الاتهام الذي وجه إليه بحكم قطعي. فالنص يضيق من نطاق التعويض بحيث يقصره فقط على حالة ثبوت أن ضرراً قد نشأ عن إطالة أمد التوقيف عن مدده النظامية. فمفهوم فكرة "التوقيف التعسفي" في النظام السعودي تظل فكرة ضيقة، خلافاً لما عليه حال التشريعات المقارنة. وهكذا يكون نطاق الاستثناء من مبدأ عدم جواز تقرير مسئولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية ينحصر فقط في التعويض عن التوقيف الذي يطول أمده عن المدة النظامية. وفيما عدا ذلك، فلا يجوز تقرير مسئولية بحق الدولة عما يصدر عن رجال هيئة التحقيق والإدعاء العام أو من القضاة من أوامر توقيف ولو ثبتت براءة من صدر الأمر بحقه فيما بعد أو حفظت الدعوى قبله. وهكذا يكون المنظم السعودي قد عبر عن بقاءه وفياً لقاعدة عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية، ذلك الأمر الذي يبرره الفقه التقليدي بحجة استقلال السلطة القضائية، إذ أن الإدارة حين تسأل عن الأخطاء التي يرتكبها الموظفون أثناء قيامهم بالأعباء الموكلة إليهم فهذا ناجم عما تتمتع به الدولة إزائهم من سلطة الرقابة والتوجيه، بينما القضاة ومن في حكمهم من أعضاء هيئة التحقيق والإدعاء العام فهم مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم – وفقاً للنظام السعودي - لغير الشريعة والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في عملهم (المادة الأولى من نظام القضاء الجديد[6]، والمادة الخامسة من نظام هيئة التحقيق والادعاء العام[7])، ولذلك لا تسال السلطة التنفيذية عن أعمالهم الخاطئة. هذا فضلاً عن أن تقرير المسئولية بشكل متوسع من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة سير القضاء والمرافق المتصلة به، لما سينجم عنه من خوف و تردد من قبل القضاة ومن في حكمهم حال اتخاذ القرارات والأوامر وإصدار الأحكام. وعلى أية حال، فإننا لا ندري سبباً جعل القائمين على إعداد نظام الإجراءات الجزائية يضربون عرض الحائط بالتوجهات الحديثة في القانون المقارن في شأن التعويض عن التوقيف غير المبرر أو غير المشروع، لاسيما وأن هذا النظام حديث العهد، وكان أجدر من ثم أن يتلقف أحدث التطورات في الأنظمة الإجرائية الجنائية المعاصرة، لاسيما وأن العائق الاقتصادي الذي تتعلل به الدول أحياناً عند رفضها تكريس الحق في التعويض عن التوقيف التعسفي أو التوسع في مدلوله ليس بقائم في حال المملكة العربية السعودية. ولنلق إذاً نظره على موقف التشريع المقارن، الذي بدأ منذ فترة بعيدة يهتم بفكرة التعويض عن الحبس أو التوقيف المؤقت أو الاحتياطي غير المبرر أو التعسفي، لاسيما في أعقاب انعقاد المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات،المنعقد بروما عام 1953، والذي جاء في التوصية 17 منه أنه:" يجب على الدولة تعويضالمحبوس مؤقتاً في حالة ارتكاب خطأ قضائي ظاهر، إذا كانت الظروف تشير إلى أن الحبسأكتسب صفة التعسف". ثانياً: التعويض في التشريعات المقارنة: أ: التعويض في القانون الفرنسي: تطبيقاً للمادة التمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، التي توجب التعويض عن الاعتداءات على قرينة البراءة، خطى المشرع الفرنسي خطوات واضحة نحو تفعيل مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطي التعسفي أو غير المبرر، بأن رفع مبدأ التعويض من مصاف المنحة أو المكنة للجهة القضائية التي تفصل في الطلب[8]، إلى مصاف الوجوب والحق إذا توافرت شروط التعويض (م.149)[9]. يدل على ذلك أن قانون الإجراءات الجنائية، وفق تعديله الذي تم بقانون تدعيم قرينة البراءة رقم 516 الصادر في 15 يونيو 2000، قد أوجب إخطار المتهم فور صدور أمراً بألا وجه في مواجهته أو بإخلاء السبيل أو حكم بالبراءة، بحقه في طلب التعويض (م.149، 149-1). وقد أدرج مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطي التعسفي أو غير المشروع في القانون الفرنسي في المادة 149 من قانون الإجراءات الجنائية منذ صدور القانون رقم 70-643 الصادر في 17 يوليو 1970 والقانون رقم 78-50 الصادر في 9 يناير 1978، والتي عدلت بموجب قانون تدعيم قرينة البراءة رقم 516 الصادر في 15 يونيو 2000، والتعديلات التي تلته حتى القانون رقم 204 الصادر في 9 مارس 2004. وتنص المادة 149 في صياغتها الأخير على أنه: "دون إخلال بأحكام الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 781-1 من قانون التنظيم القضائي، فإن للشخص الذي كان محلاً لحبس احتياطي خلال إجراءات جنائية، انتهت قبله بإصدار أمر بألا وجه أو بإخلاء سبيله أو بحكم نهائي بالبراءة، الحق – بناء على طلبه - في تعويض كامل عن الضرر الأدبي والمادي الذي سببه له هذا الحبس. ولا يتوجب التعويض إذا كان هذا القرار قد صدر مؤسساً على سبب وحيد وهو تقرير عدم مسئولية تطبيقاً للمادة 122-1 من قانون العقوبات، أو لصدور عفو لاحق على الأمر بالحبس الاحتياطي، أو كان الشخص قد صدر بحقه أمراً بالحبس الاحتياطي طواعية منه وبرضائه، أو سمح باتهامه عن خطأ كي يسمح للفاعل الأصلي بالإفلات من الملاحقة الجنائية (م.149 من قانون الإجراءات الجنائية). وبناءً على طلب صاحب الشأن يتم تقدير التعويض من خلال الاستعانة بالخبرة في حضور الخصوم، والتي تجرى وفق الضوابط المقررة في المواد 156 وما بعدها. وحينما يعلن الشخص بالأمر بألا وجه أو بحكم البراءة فيتعين إخطاره بحقه في طلب التعويض وبأحكام المواد 149-1 إلى 149-3 (الفقرة الأولى)[10]. ويظهر من هذا النص أن المشرع الفرنسي قد أوجب توافر عدة شروط من أجل استحقاق التعويض عن الحبس المؤقت التعسفي: وأول تلك الشروط، يتمثل في ضرورة أن يكون هذا الحبس قد ثبتت عدم مشروعيته، إما بناء على صدور أمر بألا وجه، أو أمر بإخلاء السبيل، أو بصدور حكم نهائي بالبراءة. ولعل هذا الشرط يطرح تساؤلاً حول ما إذا كان الحق في التعويض يثبت للشخص إذا ما تمت تبرئته عن بعض الوقائع في حين أدين عن وقائع أخرى في ذات الدعوى. في الحقيقة أن اللجنة الوطنية للتعويض عن الحبس المؤقت Commission de l'indemnisation des détentions provisoires، والتي كانت تختص في السابق بمنح التعويض إلى ما قبل تعديل قانون الإجراءات الجنائية بموجب القانون رقم 516 الصادر في 15 يونيو 2000، والقانون رقم 204 الصادر في 9 مارس 2004، كانت في البداية ترفض منح التعويض في مثل تلك الحالة، إلى أن عدلت عن هذا التوجه في واقعة كانت تتلخص في أن شخصاً كان قد تم حبسه مؤقتاً بتهمة تزعم عصبة إجرامية، والتحضير للقيام بعمل إرهابي. وقد صدر حكم ببراءته عن تلك التهم، وإدانته فقط عن جريمة الإقامة غير المشروعة. وقد رأت اللجنة سالفة الذكر أن هذا الجرم الأخير ما كان وحده يبرر حبسه مؤقتاً، الأمر الذي يجعل الحبس الذي خضع له عن تهمة الشروع في عمل إرهابي حبساً تعسفياً وغير مبرر[11]. ويشترط أيضاً لاستحقاق التعويض، أن ينجم عن الحبس غير المشروع ضرراً، مادياً كان أم معنوياً. ولم يعد المشرع الفرنسي يتطلب درجة معينة للضرر، خلافاً لما كان يشترطه المشرع في بدء اعتماد نظام التعويض عن الحبس المؤقت غير المشروع وقبل تعديل 15 يونيو 2000، من وجوب أن يترتب على الحبس المؤقت ضرر غير عادي Préjudice irrégulierوبالغ الجسامة D'une gravité exceptionnelle. ويختلف الضرر المادي عن الضرر المعنوي في مسألة الإثبات، فبينما يجب على الجهة المختصة بمنح التعويض التثبت من تحقق الضرر المادي، الأمر الذي قضي بتوافره في حق المتهم الذي فصل من عمله نتيجة حبسه مؤقتاً[12]، فإنها تعفى من هذا الإثبات في حالة الضرر المعنوي أو الأدبي، إذ قضي بأن الحبس المؤقت يعد في ذاته أذىً معنوياً[13]، وكل الدور الذي يتبقى للجهة المختصة بمنح التعويض هو تقدير حجم الخلل الذي وقع في سير العدالة من أجل تقدير مبلغ التعويض. ومؤدى ذلك أن مطلق الضرر المادي أو المعنوي، أصبح يسمح بمنح التعويض، شريطة أن يثبت أنه - أي الضرر - قد نشأ عن الحبس المؤقت. ومعنى ذلك أنه من الواجب على الجهة المختصة بمنح التعويض أن تتثبت أيضاً – وهذا هو الشرط الثالث لاستحقاق التعويض - من توافر رابطة السببية بين الحبس وبين الضرر الناشئ عنه. ولهذا قضي برفض طلب التعويض متى تبين أن الضرر الناشئ كان سببه إخلال المتهم بالالتزامات التي فرضها عليه قاضي التحقيق، الأمر الذي أدى لتوقيفه[14]. وكذلك رفض طلب التعويض عن الضرر الناشئ، لا عن الحبس المؤقت ذاته، وإنما عن قيام دولة أجنبية بطلب تسليم أحد الأجانب المقيمين على الإقليم الفرنسي لمحاكمته في دولته عن إحدى الجرائم التي كان قد ارتكبها قبل انتقاله إلى فرنسا[15]. وكذلك رفض طلب التعويض عن الضرر الناشئ عن الإغلاق الإداري لأحد المقاهي التي يديرها أحد المتهمين بالاتجار في المخدرات، متى تبين أن هذا الضرر لم ينشأ عن حبس المتهم مؤقتاً، وإنما كان ناشئاً عن الممارسات غير المشروعة التي كان تقع داخل المقهى[16]. فإذا تحققت تلك الشروط فقد وجب منح التعويض، الذي يقع سداده كمصاريف قضاء جنائي frais de justice criminelle– وفق ما تقرره المادة 150 من قانون الإجراءات الجنائية - على عاتق الدولة[17]؛ عدا حالة رجوع الدولة على المبلغ بسوء نية أو شاهد الزور، الذي تسبب بخطئه في إصدار الأمر بالحبسالمؤقت، أو مد هذا الحبس[18]. وفي شأن الاختصاص بالفصل في طلب التعويض، فإن قانون 15 يونيو 2000الخاص بتدعيم قرينة البراءة وحقوق المجني عليهم، والتعديلات التي تلته حتى القانون رقم 204 الصادر في 9 مارس 2004، قد سمح بفحص هذا الطلب على درجتين[19]. فنصت المادة 149-1 من قانون الإجراءات الجنائية على أن يفصل في طلب التعويض المقرر في المادة 149 الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التي صدر في دائرتها الأمر بألا وجه أو بإخلاء السبيل أو الحكم الصادر بالبراءة، وذلك بموجب قرار مسبب .Décision motivée، ويجب تقديم هذا الطلب في غضون الستة أشهر التالية لصدور الأمر بألا وجه أو بإخلاء السبيل، أو الحكم النهائي بالبراءة.ويجري النظر في الطلب في جلسة علنية En audience publique– وليس في غرفة المشورة كما كان يتقرر في السابق - ما لم يعترض مقدم الطلب، الذي له أن يطلب سماعه شخصياً أو عن طريق مستشاره (م. 149-2). ويمكن الطعن على قرارات الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف - المعتبر كقضاء درجة أولى - خلال عشرة أيام من تاريخ إعلانها، أمام اللجنة الوطنية للتعويض عن الحبس Commission Nationale de Réparation des Détentions. وهذه اللجنة – المتواجد مقرها بمحكمة النقض – هي التي تختص وحدها بالنظر في هذا الطعن، ولا يجوز الطعن بأي طريق كان على القرارات الصادرة من قبلها (م.149-3).ويمكن لمكتب محكمة النقض Le bureau de la Cour de cassation أن يقرر تشكيل أكثر من لجنة. وتتشكل اللجنة الوطنية هذه – أو اللجان المتعددة إذا اقتضى الأمر – برئاسة الرئيس الأول لمحكمة النقض، أو من يقوم مقامه واثنين من قضاة النقض من درجة رئيس دائرة Président de chambre، أو مستشار، أو مستشار مقرر Conseiller référendaireيتم اختيارهم سنوياً - إلى جانب ثلاثة قضاه احتياطيين Suppléants- بواسطة مكتب المحكمة. ويقوم بعمل النيابة العامة أمام تلك اللجنة النيابة العامة لدى محكمة النقض Le parquet général près la Cour de cassation. ولا يفوتنا في النهاية أن نشير إلى أن المشرع الفرنسي لم يكتف بهذا الأسلوب في جبر الضرر الناشئ عن الحبس المؤقت، بل أجاز لقاضي التحقيق – بناء على طلب صاحب الشأن، أو باتفاق معه، أو من تلقاء نفسه، أو بناءً على طلب النيابة العامة – أن ينشر الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، كلياً أو جزئياً، أو ينشر بيان يعلم به الجمهور بمضمون هذا القرار وأسبابه، في واحدة أو أكثر من الصحف المكتوبة الدورية، أو وسائل الإعلام المسموعة أو المرئية، أو عبر شبكات الانترنت المختصة. وإذا قدر قاضي التحقيق أن صاحب الشأن لا يحق له المطالبة بالنشر، فعليه أن يصدر قراراً مسبباً، والذي يمكن الطعن عليه أمام غرفة التحقيق Chambre d'instruction(م.177-1)[20]. فضلاً عن ذلك، فإنه يجب التأكيد على أن هذا النشر الواردة بالمادة 177-1، يمكن اللجوء إليه ولو كان المتهم قد حصل على تعويض أدبي بطريق النشر المنصوص عليه في المادة 9-1 من القانون المدني، والتي تعطي للقاضي الحق في أن يأمر، ولو بصور مستعجلة، ودون الإخلال بالحق في التعويض عن الأضرار، باتخاذ الإجراءات لوضع حد للاعتداء على قرينة البراءة، كنشر تصحيح أو إصدار بيان، وذلك على حساب الشخص الطبيعي أو المعنوي المسئول عن هذا الاعتداء، وذلك متى عرض الشخص على الجمهور قبل صدور حكم بإدانته، بحيث يظهر كما لو كان قد ارتكب الأفعال محل الاستدلالات أو التحقيقات القضائية. وهذا الجمع يبرره اختلاف نطاق كلا الأسلوبين في النشر، فبينما يتسع نطاق النشر الوارد في المادة 9-1 من القانون المدني لارتباطه بشخص ما زال محل اتهام، وما زالت براءته منه محل شك، فإننا نجد أن النشر الذي بينته المادة 177-1 يقتصر نطاقه على حالات البراءة المؤكدة بصدور الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، الأمر الذي يجعل من المادة 9-1 أداة أكثر فاعلية لجبر الضرر الناشئ عن العدوان على أصل البراءة، إذا ما قورنت بغيرها من الأدوات، لاسيما المادة 177-1 من قانون الإجراءات الجنائية[21]. ب: التعويض في القانون الجزائري: تنص المادة 137 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري الصادر بالأمر رقم 66-155 في 8 يونيو 1966، والمعدل بالقانون رقم 01-08 الصادر في 26 يونيو 2001 على أنه يمكن أن يمنح تعويض للشخص الذي كان محل حبس مؤقت غير مبرر خلال متابعة جزائية انتهت في حقه بصدور قرار نهائي قضى بألا وجه للمتابعة أو بالبراءة إذا ألحق به هذا الحبس ضرراً ثابتاً Préjudice avéréومتميزاً Particulierوذو جسامة خاصة D'une particulière gravité. ويكون التعويض الممنوح طبقاً للفقرة السابقة على عاتق خزينة الدولة مع احتفاظ هذه الأخيرة بحق الرجوع على الشخص المبلغ سيء النية أو شاهد الزور الذي تسبب في الحبس المؤقت. وتوضح المادة 137 مكرر (1) أن منح هذا التعويض يكون من قبل لجنة منشأة على مستوى المحكمة العليا تدعى "لجنة التعويض Commission d'indemnisation". ووفقاً للمادة 137 مكرر (2) فإن هذه اللجنة تشكل برئاسة الرئيس الأول للمحكمة العليا أو ممثله، وعضوية قاضيين من قضاة هذه المحكمة بدرجة رئيس غرفة، أو رئيس قسم، أو مستشار، أو أعضاء. ويعين أعضاء اللجنة سنوياً من قبل مكتب المحكمة العليا، ويعين هذا الأخير كذلك ثلاثة قضاة احتياطيين لاستخلاف الأعضاء الأصليين عند حدوث مانع. وقد حدد إجراءات نظر طلب التعويض أمام اللجنة المواد من 137 مكرر (3) إلى 137 مكرر (14)، وأهم ما فيها أن اللجنة تعقد جلساتها في غرفة مشورة، وتصدر قراراتها في جلسة علنية، ولا تكون قراراتها قابلة للطعن أمام أية جهة. ج: التعويض في القانون المصري: الحقيقة أن المشرع المصري، بصدد إشكالية التعويض عن الحبس الاحتياطي التعسفي، قد اتخذ خطوة مبدئية، نحسبها جادة، لا مجرد تسكين لأصوات تعلو منادية بتقرير هذا الحق، أو مجرد تحسين لصورة الدولة أمام منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني المطالبة بذلك، على أثرها أضيفت المادة 312 مكرراً إلى نصوص قانون الإجراءات الجنائية بالقانون رقم 145 لسنة 2006[22]الصادر في 15 يوليو لعام 2006 كي تسمح وعلى الفور بمبدأ التعويض الأدبي من خلال إلزام النيابة العامة بنشر كل حكم بات ببراءة من سبق حبسه احتياطياً، وكذلك كل أمر صادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار على نفقة الحكومة. ويكون النشر في الحالتين بناءً على طلب النيابة العامة أو المتهم أو أحد ورثته وبموافقة النيابة العامة في حالة صدور أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى. وقد ارتأى المشرع تأجيل العمل بمبدأ التعويض المادي عن الحبس الاحتياطي الذي يعقبه حكم بات بالبراءة أو عند صدور أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لحين صدور قانون خاص ينظم القواعد والإجراءات التي يتطلبها العمل بهذا النمط من التعويض. ولاشك أن هذا الموقف من المشرع المصري يعالج جزئياً صداماً دستورياً كان يتغافل عنه المشرع مع وجود نص المادة 57 من الدستور المصري التي تقرر "تكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع اعتداء على حريته الشخصية". والتفسير الدقيق لهذا النص يوجب فهم لفظ "الدولة" على أنه يشمل التعويض عن أخطاء كافة السلطات داخلها، لا أن يقتصر الأمر على التعويض عن أخطاء السلطة التنفيذية. كما أن موقف المشرع المصري يتناسق جزئياً مع نص المادة 9/5 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 التي تنص على أن: "لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير مبرر حق الحصول على تعويض". ويقترب المشرع المصري بهذا التوجه الجديد أيضاً مع الحقوق الأساسية للإنسان التي سطرتها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لاسيما الحق الذي ورد في نص المادة 5/5 والمتمثل في أحقية كل شخص كان ضحية توقيف Détention، أو قبض Arrestationبالمخالفة لأحكام تلك المادة، في التعويض عن الضرر الذي حاق به. كما يعزز المشرع المصري بهذا النص من موقفه الداعم لحقوق الإنسان ولمبدأ أصل البراءة بين التشريعات الإجرائية المقارنة التي تقرر - ومنذ زمن أصبح بعيد - حق المتهم الذي أعتدي على البراءة الأصلية فيه – وخاصة عند إصدار أمر بالحبس الاحتياطي قبله - في طلب التعويض المادي والأدبي عن الضرر الذي أصابه. وهذه هي سنة التشريع الألماني منذ صدور قانون 14 يوليو 1904، والمعدل في 8 مارس 1971، وكذا التشريع الفرنسي منذ صدور القانون رقم 70-643 الصادر في 17 يوليو 1970 والقانون رقم 78-50 الصادر في 9 يناير 1978[23]. خاتمة === الحقيقة أن فكرة التعويض عن التوقيف التعسفي صارت منذ سنوات علماً في التشريعات المقارنة على عناية الدولة بحقوق الإنسان، واحترامها لأحد أهم هذه الحقوق، ألا وهو مبدأ أصل البراءة. والمملكة العربية السعودية وهي ترقبها العيون في شتى بقاع العالم، بحسبانها رمزاً لإعمال النظام الجنائي الإسلامي، لابد أن تسارع إلى جعل مبدأ التعويض عن التوقيف التعسفي بمعناه الشامل أولوية قانونية، يجب العمل على تدعيمها بشكل فاعل؛ باعتبار أن ذلك صار التزاماً دولياً سطرته بشكل واضح المادة 9/5 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966. ولنا والحال كذلك أن نوصي المنظم السعودي بضرورة تبني الآتي: 1- المبادرة إلى إصدار قانون لتنظيم التعويض المادي عن التوقيف التعسفي، أو استغلال فرصة تعديل نظام الإجراءات الجزائية في الوقت الراهن وإدراج حلول لهذه الإشكالية بين طياته. 2- ضرورة فهم فكرة التوقيف التعسفي بمعنى واسع لتشمل "جميع حالات التوقيف التي يعقبها صدور حكم قطعي بالبراءة، أو قرار بحفظ الدعوى"، وعدم قصر هذا المفهوم فقط على حالة إطالة مدة التوقيف أكثر من المدة المقررة نظاماً. فأمر التوقيف يكون تعسفياً في رأينا ليس فقط حين لا يكون مشروعاً من حيث مدته أو جهة إصداره...الخ، بل أيضاً حين لا يكون معقولاً ولا ضرورياً في الظروف التي صدر فيها. أن يؤسس مبدأ التعويض على فكرة تحمل المخاطر، لا فكرة الخطأ المرفقي، كي لا نفتح باباً لبحث أخطاء القضاة ومن في حكمهم من أعضاء هيئة التحقيق والإدعاء بغير الإجراءات المقررة لمخاصمتهم. ضرورة عدم تقييد هذا الحق بحصول ضرر ما من تقرير التوقيف، وكذا عدم إخضاع منح هذا التعويض لتقدير القضاة. 3- يجب – من منطلق احترام مبدأ أصل البراءة - جعل هذا التعويض وجوبياً في كل حالة يعقب الأمر بالتوقيف فيها حكم بات بالبراءة أو قرار بحفظ الدعوى (أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية)، ما لم تؤسس البراءة أو قرار الحفظ على أساس امتناعالمسؤولية الجنائيةللمتهم أواستفادتهمن عفولاحقعلىتوقيفه، أوإذا ثبت أن الشخص تركأن يتهمعلىسبيلالخطأبحريته وإرادته لأجل إفلات الفاعل الحقيقي من الملاحقة. 4- إذا ما تخير المنظم اشتراط تحقق ضرر فعلي لاستحقاق التعويض، فإنه من المستحسن ألا يعلق المنظم هذا الأخير على ثبوت جسامة الضرر، أو ثبوت كونه شاذاً. 5- أن تلزم الدولة في جميع الأحوال بأداء التعويض؛ عدا حالة رجوعها على المبلغ بسوء نية أو شاهد الزور، الذي تسبب بخطئه في إصدار الأمر بالتوقيف أو مده، أو حالة رجوعها على عضو هيئة التحقيق والإدعاء العام أو القاضي الذي وقع منه غش أو تدليس أو خطأ مهني جسيم أفضى إلى توقيف المتهم بغير مسوغ نظامي. 6- يفضل أن يسند أمر الاختصاص بالفصل في طلب التعويض إلى لجان ذات اختصاص قضائي مشكلة من القضاة الشرعيين والنظاميين، تسمى الواحدة منها "اللجنة الوطنية للتعويض عن التوقيف". ويجب أن يكون القرار الصادر برفض التعويض مسبباً. 7- تختص اللجنة التي يصدر في دائرتها الحكم بالبراءة أو القرار بحفظ الدعوى بالنظر في طلب التعويض. 8- أن يسمح بالطعن على القرارات الصادرة أمام لجان استئنافية "اللجنة الوطنية الاستئنافية للتعويض عن التوقيف". 9- يجب أن يشتمل القرار أو الحكم الصادر بمنح التعويض المادي عن التوقيف التعسفي، على إلزام الدولة بنشر هذا القرار في واحدة أو أكثر من الصحف اليومية، أو في وسائل الإعلام الأخرى، كنوع من التعويض الأدبي الدائم. كما يجب أن تلزم جهة التحقيق بنشر موجز قرارها بحفظ الدعوى، لاسيما إذا كان التحقيق مقترناً بتوقيف المتهم. 10- ولما كان نظام التوقيف لايخلومن مضار اجتماعية مهنيةونفسية تلحق المتهم الموقوف وأسرته، فإنه يتعين على المنظم أن يقيده في أضيق نطاق، وهذا يمكن أن يتحقق من خلال الأخذ بعدة أساليب: - إسناد الاختصاص بإصدار أوامر التوقيف أو تمديدها إلى قاض مستقل ومحايد عن سلطة التحقيق والاتهام، على غرار "نظام قاضي الحريات والحبس" المعمول به في القانون الفرنسي (م.137-1 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي[24]). - السماح بالطعن على الأوامر الصادرة بتوقيف المتهم. - النص على إمكانية استبدال التوقيف بتدابيرأخرىتكفلتحقيقالغايةمنه وتتفادىفيذاتالوقتشروره. وهنا يمكن الأخذ بنظام المراقبة القضائية الذي يعني إلزام المتهم بواحد أو أكثر من الالتزامات التي يفرضها المنظم[25]. ويفضل الأخذ بما ذهب إليه المشرع الفرنسي من اعتبار المراقبة القضائية هي الأصل، فإذا أخل بها المتهم جاز لسلطة التحقيق (أو القاضي المختص بالتوقيف) الأمر بتوقيفه. * كلية الحقوق والعلوم السياسية - جامعة الملك سعود