الشروق - القاهرة فور أن أنهى الرئيس المصرى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وهتف ثلاث مرات «تحيا مصر» فإن عاصفة من المشاعر الجياشة فاضت بين الكثيرين من أبناء الشعب المصرى فى الداخل والخارج معبرة عن سعادة غامرة «باستعادة الدولة» التى أصبح لها أخيرا «رجل يليق بها»! فى أوساط كثيرة محيطة بى أستطيع أن أقول إن هذه المشاعر المؤيدة للرئيس والسعيدة باستعادة الدولة كانت مشاعر حقيقة وليست مصطنعة وإنها كانت تبحث بالفعل عن هذه اللحظة «الأممية» التى يتم الاحتفاء فيها باستعادة الشرعية الدولية لترتيبات 3 يوليو. عبر كثيرون من أصدقائى ومعارفى عن سعادة مفرطة بخطبة رئيس الجمهورية ومنهم من يحمل رؤية نقدية للنظام وتصرفاته لكنه فضل الاحتفاء فى هذه اللحظة وهو يشاهد العالم كله يعترف بمصر ونظامها الجديد، وكان الجميع تقريبا يردد نفس الكلام عن السعادة لاستعادة الدولة ومكانتها الدولية ناسبين الفضل إلى هذا الرجل الذى يليق بنا وبها! لاشك أن كلمات الرئيس فى خطابه الأممى الأول والذى تخطى ربع الساعة بقليل كانت منمقة ومختارة بعناية ولا شك لدى أن قلما جديدا دخل على صياغة خطابات الرئيس فأضفى عليها رونقا خاصا جعل للخطاب ثقله وقدرته على مخاطبة الرأى العام العالمى، بالغ الرجل قليلا فى بعض التعبيرات الجسدية مبالغة أفسدت جملة الخطاب وقد تسوق داخليا لكنها بكل تأكيد لن تستهلك دوليا، لكنى تجاوزت عن كل هذا لأضع أمامى ثلاثة أسئلة براجماتية، الأول: لماذا يشعر المصريون بهذا الحنين الشديد إلى الدولة وإلى فكرة القائد الزعيم الأب؟ وثانيا: لماذا وبعد كل هذه السنوات والتغييرات السياسية صعودا وهبوطا مازلنا ندور حول تقديس الزعماء والبحث عن رجل يليق بوطننا؟، وثالثا: ماذا قال السيسى تحديدا فى الخطاب ليثير كل هذه المشاعر الجياشة المحتفية بالخطاب؟ أولا: فكرة الدولة قديمة قدم الأزل عند المصريين وأصبح من الموروث الثقافى لديهم أنه لا كرامة أو أمن أو حتى حياة دون هذه الدولة، فى تقديرى الدولة التى يصبو إليها المصريون ليست مصر الملكية التى بناها محمد على، ولكنها مصر الناصرية التى يحكمها زعيم وطنى بطل ينضم إلى دول عدم الانحياز ويعادى أمريكا والمشروع الصهيونى، مصر التى تعلم وتوظف وتوفر الخدمات والدعم والأمن وتبنى المشروعات القومية وتؤمم الثروات القومية وتدعم الطبقات المتوسطة وتعيد توزيع الأراضى وتقيم نهضة صناعية كبرى وترعى الأسرة والأم والطالب والمعلم وتقود وحدة عربية كبرى من المحيط إلى الخليج وتقود صناعة السينما والفن عربيا وإقليميا. دولة مهد السادات لتغيير معطياتها، ثم أتى مبارك ليعبث بها حتى قامت ثورة أشعرت قطاعا واسعا من المصريين أن دولتهم على عيوبها أفضل من عدمها، ولأن رجلا متواضع الإمكانات ربما لا يصلح لعضوية مجلس محلى بالتعيين أصبح رئيسها فإن الشعور بضياع الدولة تزايد وجعل العديد من أبناء الشعب يتطلع إلى الرجل القوى القادر على استعادة زمام الأمور! هنا معضلة كبيرة، فلا الظروف هى الظروف ولا الرجل هو الرجل ولا المؤسسة هى المؤسسة ولا البيئة الإقليمية والدولية هى نفسها تلك القائمة فى عهد عبدالناصر، من يستطيع أن يعد مصر إلى عصر الحزب الواحد؟ من يستطيع تحمل الدعم والتعليم والصحة والتوظيف والرعاية الاجتماعية؟ من هذا الرجل الذى يستطيع تفكيك ثروات رجال الأعمال والسيطرة عليها لتحقيق فائض يخدم الشعب؟ من هذا الرجل الذى يستطيع أن يعيد مصر بكل التغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أكثر من خمسين سنة إلى الوراء؟ من هذا الرجل الذى يستطيع إعادة عصر القطبية الثنائية والقومية العربية؟ لو بعث الله رسولا من جديد ما استطاع أن يعيد استنساخ التاريخ، أما وقد انقطع الوحى على النزول فهل يفعلها بشر؟ ثانيا: ما زال قطاع كبير من المصريين (يستوى فى ذلك بالمناسبة الإسلاميون والعلمانيون) يتوق إلى فكرة البطل والزعيم لعدم الرغبة فى بذل جهد للحفاظ على التعددية والمؤسسية لتحل محل الشللية والعلاقات الشخصية، يركن قطاع من الناس إلى فكرة الخنوع والذل طالما حافظوا على أكل العيش، عبر تاريخ طويل من الاستعمار والصراعات فقدت الشخصية المصرية الثقة بالنفس وأصبح البحث عن «رجل» ملهم أو مبعوث إلهى أو مختار من السماء هو منتهى الأمل، سيطرة الدروشة الدينية والسياسية جعلت قطاعا من المصريين يركن إلى فكرة استنساخ الأبطال والقادة دون بذل الجهد للإجابة عن الأسئلة المنطقية الموجعة عن كيفية استعادة الأبطال فى عهد أصبح يعترف بالعمل الجماعى التعددى وليس العزف المنفرد! ثالثا: ماذا قال الرئيس فى خطابه الأممي؟ ما قاله الرجل هو تحديدا الخطاب الذى نردده منذ معارضة مرسى ثم عزله، دولة ديمقراطية مدنية حديثة تحترم التعددية وحقوق الإنسان ولا تحجر على الآراء أو تكممها أو ترهبها، ما قاله هو دولة تخطط للأمام وهى تحترم ثوراتها التى رويت بدماء أبنائها وشبابها، هى دولة وسطية بها السجون للتهذيب والإصلاح لا لتصفية الحسابات والتنكيل بالمعارضين والمختلفين، دولة تحترم الدستور والقانون وتجعل من سيادة الشعب مصدرا لكل السلطات. ألم يكن هذا ما قاله الرجل؟ دعك من السؤال الملح عما اذا كان هذا هو ما يحدث على أرض الواقع وتحرك معى إلى السؤال الأكثر إلحاحا ماذا لو أصبحت مصر داخليا وإقليميا مثلما قال الرئيس فى خطبته؟ الإجابة بسيطة، ستصبح دولة مدنية حديثة تحترم نفسها قبل أن تستجدى اعتراف واحترام الآخرين، ستصبح مصر دولة تعددية ليس بها رجل واحد يقود المشهد ويقف استقرار دولة بها 90 مليونا على سلامته، ولكن دولة بها أحزاب ونقابات وطبقات تتنافس على مصادر القوة والسلطة والثروة وفقا لقواعد لعبة ديمقراطية عادلة تحترم القانون ومن قبله الدستور! لم يعد فى الدول الحديثة مساحة للحديث عن الزعماء المقدسين أصحاب الدعم السماوى والإلهام الإلهى، لكن هناك منابر للتنافس السياسى، هناك أحزاب تتداول السلطة، ثم هناك أيضا برلمانات تراقب الحكومات وتشرع نيابة عن الشعب، ثم يأتى موظف أعلى مسئول أمام الشعب وخاضع للدستور وجهاز قضائى مستقل يحكم بالعدل بين كل هؤلاء! حديث الرئيس جاء موفقا إلى حد بعيد، وبمجرد أن خطى نحو منصة الجمعية العامة حتى ومن قبل أن يتكلم كلمة واحدة فقد حاز نظامه الشرعية الدولية مكتملة لا ريب، لكن هذه الأخيرة هى شرعية الأمر الواقع وقد حصل عليها من قبل مبارك ومرسى وخسرها كلاهما بمجرد تغيير المعطيات الداخلية، وهنا بيت القصيد، لن تنجو مصر من إرهاب أو انهيارات أو تحديات لأن هناك رجلا يليق بها أو تليق هى به، ولكن لأن هناك نظاما سياسيا يليق بها وبشعبها وبحضارتها، نظاما سياسيا ملامحه هى تحديدا تلك التى تحدث عنها الرئيس، هذا النظام هو وحده القادر على إعادة لملمة مشاكل مصر وأوجاعها وانقساماتها، هو وحده القادر على دعم نظام شرعيته الداخلية لا تقل عن تلك التى حصل عليها دوليا فالشرعية الداخلية هى الأبقى والأجدى. الاجتماعات الأممية تشهد صعودا وهبوطا للدول، وتظل عدسات الكاميرات وعناق الزعماء ومأدبة الغداء مجرد لقطات للذكرى، أما الداخل فهو وحده القادر على دعم شرعية النظام الحاكم واستمراره فى السلطة والحكم، وهذا الداخل يجب ألا يراهن على شخص ولكن على نظام يرعى الدولة ومصالحها ويحميها من الانهيار، يتعامل مع الواقع المعاصر بواقعية ويسعى لإيجاد إجابات علمية ومنطقية لتحدياته بدلا من النبش فى التاريخ وإيهام الناس بإعادة إنتاج الأبطال القوميين. فمتى تتحول مصر من مرحلة البحث عن الرجل الذى يليق بها إلى البحث عن النظام الذى يليق بها وبشعبها؟ يبقى هذا هو السؤال.