التقرير - السعودية -1- في كل بلد، وفي كل وزارة.. وفي كل مؤسسة وفي كل هيئة وفي كل مصلحة.. هناك هرم، وهناك رأس للهرم، وهناك قاعدة! يسهل على الرأس أن يصل إلى من حوله (لعله اختارهم أو ورثهم ورضي عنهم فأبقاهم)، فيرى أحوالهم ويسمع لهم، ويظن لوهلة أنهم يمثلون باقي القائمة، فتهدأ نفسه لأنه يهتم لأمرهم ويسعى من أجلهم. ويبقى التحدي الحقيقي لنجاحه الوصول إلى أولئك "البعيدين" الذين يسكنون القاعدة ولا تدركه أصواتهم ولا يكترث لأحوالهم من هم حوله من أصحاب الحسابات الثقيلة و"البشوت" المقصبة. ليس تحديًا فحسب، بل هو أولى واجباته.. أن يصل إلى "الإنسان البعيد"! -2- يدهشني المسؤول "المخلص" الذي يزور إدارة ما من أجل الاطلاع على سير العمل وأحوال الناس، فتبدأ زيارته بالجلوس قليلًا في مكتب المدير، ويملأ أنفه مزيج رائحة القهوة والبخور، ثم يتظاهر بالاهتمام وهو يستمع لشرح مملّ عن "إنجازات" المدير، ثم يزور بعض أقسام الإدارة والتي تمّ إبلاغها بموعد زيارته منذ شهر، ثم يختم زيارته المباركة بابتسامة باردة وهو يقف مع بعض الموظفين من أجل صورة تذكارية. أقترح لك سيدي المسؤول أن تقف في منتصف جولتك لتطلب من ذاك المدير أن يرشدك إلى مكان الأقسام غير "المجدولة"، وابحث عن "الإنجازات" هناك. وأقترح لك أن تطلب اجتماعًا سريعًا مع عدد من الموظفين، وامنحهم شيئًا من وقتك الثمين، واسمع منهم كلمات لا تتمكن من تجاوز أسوار إدارتهم العتيقة. وأقترح لك أن تخلع "البشت" واجلس في استراحة "المراجعين". أعدك أن ما سيملأ أنفك سيكون مزيجًا مختلفًا جدًّا. لا بأس. اجلس قليلًا مع ذاك "الإنسان البعيد"! -3- تأمل في مجتمعك وستجد الأمير والوزير والمدير والشيخ والمثقف والأديب والطبيب والمهندس وجمع من "صفوة" المجتمع، ولكن هل نحن هؤلاء فقط؟ وكم أعدادهم؟ وكم نسبتهم؟ هؤلاء يسهل عليهم "الطفو"، ومن ثمّ يسهل على الرأس أن يراهم وأن يسمع أصواتهم. لكن أين الذين يسكنون قاعدة الهرم، بعيدًا عن بقعة الضوء؟ الإنسان الذي يمضي نهاره في تسديد ديونه، ثم يمضي ليله في التخطيط لمزيد من الديون! الإنسان الذي ترعبه فاتورة الكهرباء! الإنسان الذي يمكث ساعة كاملة وهو يقارن أسعار عبوات حليب الأطفال قبل شرائها! الإنسان الذي يحشر أبناءه في صندوق ال "وانيت" مع أغنامه في صباح كل يوم! الإنسان الذي لا يفهم كيف يحصل ابنه على نسبة 92% ولا يجد له كرسيًّا في أيٍّ من الجامعات! الإنسان الذي لا يصدق أن بلده يسبح فوق بحيرة من النفط، لأن المسجد والمستوصف والمدرسة تعمل بمولدات كهربائية تتعطل بين الفينة والأخرى! الإنسان الذي يعمل ل 8 ساعات، ثم يعمل في المساء، ثم يعمل في الليل، وحين يعود إلى بيته لا ينام. جسده نسي كيف ينام! الإنسان الذي يخاف أن يمرض. لا يكره المرض، بل يخاف منه. بالنسبة له المرض "البسيط" قد يقضي عليه؛ لأنه ببساطة "ما يعرف أحد في أي مستشفى"! هذا وذاك.. المجتمع حقًّا. لننسَ أمر "النخبة" قليلًا. ابحثوا عن "الإنسان البعيد"! -4- من السذاجة أن يظنّ الإنسان أن عاصمة دولة ما مؤشر جيد في الحكم على حال البلد، فالشوارع الملساء التي تصرخ حين تنزلق عليها السيارات، والميادين التي تتناثر من حولها الزهور الموسمية، والأرصفة التي تبدو بشكل جيد (أو نصف جيد)، والمجمعات التجارية وقائمة الفعاليات التثقيفية والترفيهية... كل ذلك يحكي لك شيئًا قليلًا من الحكاية! شمّر عن ساعديك وارفع طرف ثوبك، ثم زرْ المدن غير "المهمة" وتلك القرى البعيدة التي تملك أسماء في الخارطة لكنها لا تملك مكانًا في عقولنا، ثم خذ نفسًا واجمع ما بقي من إنسانيتك وابدأ رحلتك في البحث عن تلك القرى الصغيرة التي اختفت من الخارطة تمامًا لكنها لا تزال تتنفس الأمل، وابحث في حاراتها عن وجوه الناس وانتظر.. ستحكي لك تجاعيد الزمن باقي الحكاية.. حكاية "الإنسان البعيد"! -5- من المفارقات المجتمعية أنّنا نذكر "الجندي المجهول" في خطاباتنا كل يوم. هو المواطن الذي يعمل في صمت، والذي يصبر، والذي تلاحقه صفعات الدهر في وطنه ولا يزال يردد "الله لا يغير علينا". هو المواطن الذي يعشق بلاده، وبلاده لا تعرفه، وتكاد لا تعترف بوجوده. هو المواطن الذي لا يعرف من يصنع مستقبله، ولا يعرف من يهدمه! هو المواطن الذي يعيش ويموت من أجل وطنه، ويرى موارده تتلاشى ثم تظهر فجأة في حسابات "بعض" الناس، ويكاد ينفجر غيظًا، لكنه يسكت. نعترف بفضله. نشكره. لكننا لا نذكر اسمه. الجندي المجهول هو "الإنسان البعيد"! -6- في عهد النبوة.. كانت هناك امرأة سوداء تنظّف المسجد. وفي يوم ما فقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لم تكن في المسجد، ورغم كل الأمور التي تشغل باله ووقته تنبه إلى غيابها، فسأل عنها. قالوا له: إنها ماتت! لماذا لم يخبروه بأمرها؟ يقول الراوي: "فكأنهم صغَّروا أمرها". ظنّوا أنها لا تستحق شيئًا من وقته، وظنوا أنه -صلى الله عليه وسلم- لن يتنبه للأمر. لكنه تنبه. وسأل عنها. ولم يرضَ بما فعلوا بدفنها دون إبلاغه. فقال: "دلّوني على قبرِها"، فصلَّى عليها. -7- عظمة القائد –أي قائد– تعكسها قيمة أصغر عناصر الفريق. فإن كنت في منظومة سياسية أو اجتماعية أو مهنية فتذكر أن عظمة رأس الهرم مصدرها قيمة من يسكن القاعدة. الرأس لا يكون رأسًا حقًّا حتى يجد "الإنسان البعيد"!