الحياة - دولي إشارتان متناقضتان من باراك أوباما في غضون أيام، وكأن صاحبهما ليس الرجل نفسه. في 21/ 06 يقول أن لا معارضة سورية معتدلة قادرة على هزيمة نظام الأسد. وفي 25/ 06 يطلب من الكونغرس 500 مليون دولار لتدريب المعارضة المسلحة المعتدلة وتجهيزها. من جهة يطمئن النظام إلى أن المعارضة غير ذات فاعلية، ومن جهة أخرى يريد أن ينفق نصف بليون ليحسّن أوضاعها، وهذا قرار متأخر عامين على الأقل. قد يقال هذا لا ينفي ذاك، لكن سائقاً لا يعرف يمينه من يساره قد يتسبّب إما بتعطيل حركة المرور أو بحادث خطير. ثم ماذا لو كانت الإشارتان التعبير الأحدث عن ارتباك ساد السياسة الأميركية منذ الأزمة السورية حتى الآن. في النتيجة استطاع أوباما مجدّداً تأجيج الظنون في حقيقة نياته، وفي التحليل الذي يتحكّم برسم سياسته. وسواء قصد أم لم يقصد، فإن تبرّعه بهذا التقويم لحال المعارضة، بعد أيام من «انتخابات الأسد»، فُهم بأنه اعتراف ببقاء النظام. أكثر من ذلك، لم يستبعد المعارضون السوريون، وقد لُدغوا مراراً من الجحر الأوبامي، أن يكون كلامه تمهيداً ل «التقارب» مع دمشق وإعادة تأهيل الأسد ونظامه، على خطى تقارب آخر مع طهران يبدو الجانب الأميركي فيه مصمّماً على تجاهل طبيعة النظام الإيراني الذي يتحدّث إليه، ومتناسياً كل ما سبق أن قالته واشنطن في تفنيد سياسات «تصدير الثورة» التي تحوّلت مع الزمن تصديراً للصواريخ. حائرٌ أوباما؟ الأكثرة حيرةً مَن يبنون سياساتهم على إشاراته. فهو يريد حلّاً حضارياً في أوكرانيا، مستوحًى من «قيم» ما بعد الحرب الباردة، كونها تنتمي إلى العالم المتقدم. ولا يمانع حلّاً إيرانياً – لا حضارياً في العراق وسورية، لأن أنماط القتل والإرهاب فيهما ساوت ما بين الدولة والجماعات ورسّختهما في عالم ما قبل الحضارة. أما وزيره جون كيري فيستبق جاهوزية المعارضة السورية «المعتدلة» ويطالبها بمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وكأنها تنتظر دعوته وهي التي فقدت خيرة رجالها المدنيين والعسكريين في مواجهتها التنظيم منذ منتصف العام الماضي. ولو سئل أي سوري مَن المسؤول عن اختراق «داعش» مناطق المعارضة لأجاب بلا تردّد: الأسد وأوباما. الأول لأن معظم الداعشيين مرّ بسجونه قبل أن يُرسَل إلى العراق، ثم يُستدعى إلى مهمة ضد المعارضة وبتسهيلات من أعوان النظام ومن الإيرانيين. والثاني لم يدرك في منتصف 2012، قبل وصول الداعشيين، أن تلك كانت اللحظة المناسبة لتسليح «المعارضة المعتدلة». أما لماذا لم يفعل فلأنه عارض على الدوام «إسقاط النظام» قبل معرفة البديل. كان الإسرائيليون اعترضوا رسمياً على التسليح في اجتماعات حلف الأطلسي (الناتو). ما يعني أن التناغم ممكن بينهم وبين أوباما، على رغم تنافر ظاهر في المسألة الفلسطينية. وفي أي حال كانت «محاربة الإرهاب» شرطاً أميركياً دائماً لدى البحث في التسليح مع «الائتلاف» و «الجيش الحرّ»، ولم يكن هناك خلاف على هذا المبدأ، بل على ممانعة الأميركيين حصول المعارضة على مضادات جوية. كانت الحجة أن إسقاط الطائرات سيدفع النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي، وبعدما استخدمه فعلاً صارت الحجة أن المضادات قد تقع في أيدي إرهابيين. لعل التصوّر الأميركي الأخير لما يسمّى «معارضة معتدلة» صالحة للتسليح، هو الاعتماد على عسكريين معروفين هم خليط من لوائح سليم إدريس (الذي تُعتبر مجموعة «حزم» من الموالين له) ولوائح أحمد الجربا (الذي يتمسك بالمجلس العسكري الأعلى، وقد ألغى أخيراً قراراً أصدره رئيس «الحكومة الموقتة» أحمد طعمة بحلّه)، وإذ يغادر الجربا رئاسة «الائتلاف» ساعياً إلى أن يكون البديل أحد القريبين منه، فإنه يستعد لدور آخر عسكري يشرف على إحياء «الجيش الحرّ» أو بديل منه. وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع جون كيري إلى مطالبة رئيس «الائتلاف» بأن يستحثّ عشيرته، شمّر، كي تقاتل «داعش» في سورية «والعراق» (!). وعدا أن الطلب مستهجن من وزير أميركي، فلا مشكلة بالنسبة إلى فرع شمّر السوري المنخرط في محاربة «داعش» في دير الزور. لكن فرع شمّر العراقي مشارك في الثورة ضد حكومة نوري المالكي، وهل يمكن الجربا أن يقول لقومه في العراق، بعد المهانات التي تعرّضوا لها، إن أميركا تريدهم أن يحاربوا معها، وإذا دعاهم إلى إحياء «الصحوات» فمن يضمن أن المالكي أو بديله لن ينقضّ عليها ثانية، بل هل ينسى الجربا أن المعركة الرئيسية للشعب السوري هي ضد نظام الأسد وأن إيران والمالكي شريكا هذا النظام في قتل آلاف السوريين وتشريد مئات الآلاف منهم وفي الهزائم التي أُنزلت بالمعارضة بسبب إجحاف «أصدقاء» مثل أوباما وكيري وخذلانهم؟ كيفما قلّبتَ تحوّلات السياسة الأميركية ترَها مراهنة على إيران وتوجّهاتها. فالتركيز الراهن على «داعش» أصبح مبَرّراً وقد استفحل خطره، لكنه خطرٌ صُنِّع تصنيعاً ولم ينبثق من الثورة السورية، أما في العراق فزرع زرعاً في مناطق السُنّة التي كافحته عندما أتيح لها خيار آخر. ففي سورية حاربت إيران و «حزب الله» والميليشيات العراقية لإخراج السوريين من مدنهم وبلداتهم ومن بيوتهم وكانت تقول إنها تحارب «التكفيريين»، إلا أنها لم تطلق رصاصة واحدة على «داعش». وإذ تشارك أميركا الآن في حشد الجهود ضد «داعش»، فإنها تجد مصلحة في غضّ النظر عن دور إيراني في نشأة هذا التنظيم، ثم في شيطنته، وبالتالي في الانحياز إلى الحجّة الإيرانية القائلة إن المشكلة في سورية والعراق هي الإرهاب... لا، المشكلة هي نظام الأسد ونظام المالكي، بل هي النظام الإيراني نفسه، أما الإرهاب، فجاء في سياق الصراع الذي يخوضه هذا الثلاثي مع المحيط العربي تثبيتاً لنفوذ سياسي – مذهبي لإيران. كان المالكي بدا أكثر حنكةً ودهاءً من الأسد، خصوصاً أنه استحوذ على كل السلطة في «نظام ديموقراطي» مفترض، على رغم اعتراف الدستور بحقوقٍ لكل «المكوّنات» الاجتماعية – السياسية، وعلى رغم وجود برلمان منتخب، بل على رغم اتفاق لم يحترمه على أن تكون الحكومة جامعة و «وفاقية». فهل المشكلة في مبالغته بتحدّي السنّة والكرد أم في ظهور «داعش» ثم صعودها؟ أما الأسد، فكان يظن أن الأمر الواقع الذي شكّله «نظام ذو شرعية» طالما أنه حظي بشبه «قبول» دولي وعربي، ثم أظهرت الثورة أنه يحكم بالقمع والترهيب، فهل المشكلة في أنه اختار العنف والإخضاع كما استخدم إرهاب «داعش» للتعامل مع غالبية السوريين أم في دفاع الشعب عن نفسه؟ لا بدّ من أن يوضح الأميركيون ما هي المصلحة الآن: محاربة الإرهاب (كما يقول خطابهم العلني)، أم إدامته حيث هو وتعميق وجوده (كما تشي به سياساتهم)؟ لطالما قالت واشنطن أن نهج الأسد صنع بيئة جاذبة للإرهاب، ويمكنها أن تضيف إليه إيران والمالكي، لكن انجذابها إلى حربهم ينزلق إلى النمط نفسه من سياساتها الكارثية في أفغانستان غداة خروج السوفيات منها عام 1989. أما الوزير كيري فيتخبّط بين الوهم والخيال، إذ يدعو المعارضة السورية إلى حربين متزامنتين: ضد نظام الأسد لإسقاطه، ومع نظام الأسد لإسقاط «داعش». وإذ نُقل عن كيري أخيراً أن الأسد سيضطر إلى «تغيير حساباته» في غضون الشهرين المقبلين، فإن العرب الذين سمعوا ذلك يخشون خصوصاً أن تكون واشنطن مخطئة في تعاميها عن أن إيران هي التي تحرّك الدمى وتتلاعب بتوازنات المنطقة. فالحرب على الإرهاب تكون مجدية إذا توافرت لدى نظامي دمشق وبغداد إرادة وقدرة على حلول سياسية وفاقية تنصف الجميع بمن فيهم السُنّة وتحافظ على وحدة الدولة والشعب. لكن الحلول تحتاج إلى تنازلات، وهو ما تمارس طهران إزاءه أقصى «الممانعة»، لأنها تفضّ لعب ورقة «داعش» في تقرير مصير البلدين.