الشرق الأوسط يبدو أن الجيل الجديد في جميع أنحاء العالم نسي كل ما يتعلق بالسياسة، فهو يصب كل تركيزه على كرة القدم هذه الأيام. فمئات الملايين من الأعين توجهت صوب شاشات التلفاز. وهنا يأتي السؤال: «ما الذي يجعل كرة القدم جذابة إلى هذا الحد، ليس فقط للشباب، ولكن أيضا لجيلنا ممن هم في العقدين الخامس والسادس من العمر، لا سيما من هم أكبر سنا؟». قمت حديثا بالدردشة مع صديقي خالد القشطيني، الكاتب العراقي. عندما نتقابل معا نتحدث في الغالب عن الشرق الأوسط والعراقوإيران. وحديثنا يكون له منظور ثقافي واجتماعي. وعلى غير العادة، أخبرني خالد القشطيني أنه لا يحبذ أن يتابع خلال هذه الأيام الأحداث والأخبار الجارية في العراق، في ما يتعلق بالأزمة الحالية، لكنه يشاهد كرة القدم. وشعرت في كلامه بحسه الفكاهي العالي، الشيء الذي بدا واضحا في محادثات القشطيني وكتاباته. دعوني أطلق على ذلك نعمة روح الدعابة. وبينما تجعلك مقالته تضحك، تشعر في الوقت ذاته بلهيب من الألم في قلبك، وترى دموعا تلمع في عينيه. ولكي أكون صادقا، دعوني أبح بأنني أكره السياسة وأحب كرة القدم! لماذا أقول هذا الكلام بالنظر إلى خلفيتي كوزير ونائب برلماني سابق وما إلى ذلك؟ كتب ألبير كامو مقالا عن كرة القدم وعن تجربته الشخصية، يقول فيه «كل ما أعرفه حقا عن أخلاق الإنسان والتزامه، أرجعه إلى كرة القدم». نعلم أن كامو في شبابه كان حارس مرمى في نادي وهران لكرة القدم بالجزائر. وفي 2010، كتب جيم وايت مقالا في جريدة «التلغراف» بعنوان «ألبير كامو: مفكر وحارس مرمى». وجاء في المقال «يتعلق جزء من أسطورة كامو بتجربته الشخصية في المباراة. ونسب إليه الكثيرون أنه لعب للمنتخب القومي الجزائري في الثلاثينات. وعلى أي حال، يصف كامو معيارين في كرة القدم، الأول هو الأخلاق والثاني هو الالتزام». دعوني أضف بعض النقاط. النقطة الأولى هي أن هناك شفافية مطلقة في كرة القدم. لكن السياسة تعد على النقيض من ذلك، غامضة وموحلة وضبابية. وفي كرة القدم كل شيء واضح، فهناك كاميرات في كل ركن من أركان الملعب تنقل عدساتها كل شيء بدقة. وبالتالي، من المستحيل تقريبا إخفاء أي شيء. الثانية، هناك مساواة في كرة القدم بين الفرق، حيث تطبق مساحة الملعب وعدد اللاعبين والقواعد المنظمة للعبة على الجميع. ونستطيع أن نقارن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية بكرة القدم. فعلى الأقل هناك في بلادنا في الشرق الأوسط تمييز واضح. ويتمثل الجانب المظلم من هذا التمييز في تدخل القوات الأمنية في الانتخابات، الأمر الذي يؤدي إلى تغير نتيجة الانتخابات. وهذا ما حدث في إيران عام 2009. تعتبر المساواة، من دون أدنى شك، مصدرا للاستقرار والتسامح، ويعد التمييز، على النقيض، السبب الرئيس وراء الكراهية والعنف. النقطة الأخيرة هي أن هناك حكما في كرة القدم يقوم بمهمة التحكيم خلال المباراة بأكملها، حيث يتخذ القرارات الأساسية والنهائية، بالإضافة إلى وجود حكمين مساعدين لمعاونة الحكم الرئيس، يقومان برفع الراية في حالات التسلل أو عند حدوث أخطاء أو عندما تتخطى الكرة خط التماس. كما يشيران إلى من ينبغي أن تذهب إليه الكرة، رغم أن رأيهما هو مجرد توصية للحكم الأساسي. وأخيرا هناك حكم رابع مهمته الرئيسة هي احتساب الوقت الإضافي الذي يعلنه قبيل انتهاء الشوط الأول، ومرة أخرى عند اقتراب نهاية المباراة. هذا بالإضافة إلى أنه يضطلع بإجراء التغيرات لكلا الفريقين باستخدام لوحته الإلكترونية. لكن في السياسة يصبح التاريخ هو الحكم! ليس هناك حكم حي في المشهد. ربما يستطيع الإعلاميون لعب دور الحكم، لكنهم إذا تخطوا الخطوط الحمراء (علما بأنهم لا يعلمون حدود هذه الخطوط الحمراء نظرا للغموض الذي يشوبها) سيجري منعهم والقبض عليهم. دعوني أعد مرة أخرى إلى الأخلاق التي ذكرها ألبير كامو في المعيار الذي كان يسير وفقا له. ولكي أكون صادقا، فنحن لا نرى إلا نادرا حسا أخلاقيا عاليا في السياسة. أما في كرة القدم، فيلعب اللاعبون بأجسادهم الحقيقية، وبدمائهم، وأعصابهم، ولهذا عندما تحدث حادثة ما ويصاب أحدهم نستطيع رؤية الألم على وجوههم، والإحساس بمعاناتهم. بيد أن الأمر يكون مختلفا في السياسة، حيث يكون كل شيء تقريبا مصطنعا ومزيفا. وفي السياسة فقدت الابتسامة معناها الحقيقي، لأن الساسة يتكلمون بألسن بلاستيكية أو خشبية. وكما يقول مترنيش «وهب الله الإنسان لسانا يتحدث بما يخالف قلبه». وبعبارة أخرى، هناك نفاق عميق متأصل في السياسة، وشفافية واضحة في كرة القدم. إذ إن الفرق في كرة القدم تقبل في غالب الأحيان بنتيجة المباريات. فعندما خسرت إنجلترا من الأوروغواي، وخسرت إيطاليا من كوستاريكا، لم يقل أحد إنه كان هناك تمييز في المباراة. ذلك أن المساواة هي العمود الفقري لكرة القدم، والتمييز هو روح السياسة. لذلك اسمحوا لي بأن أقول: بدلا من رؤية الشباب في العراق يقتلون بعضهم بعضا على أهداف واهية، وبدلا من مشاهدة تدمير دولة تاريخية مثل سوريا، أحيانا ينبغي لنا مشاهدة كرة القدم من أجل التنفس بحرية والشعور بالحس الأخلاقي.