مكة أون لاين السعودية في هذا الزمن الصعب، في تلك الأيام الفارقة، وسط الأمواج السياسية المتلاطمة، وعواصف وأنواء المخاطر الإقليمية والدولية، في ظل المؤامرات التي تحاك ليل نهار لأمتنا وأوطاننا ومنطقتنا. في تلك الظروف العصيبة، يعز الرجال، وتفتقد الزعامات، وتتشوق شعوبنا العربية من الماء إلى الماء إلى المواقف القوية، إلى سطوع المقاصد، وجلال الغايات، يتشوقون إلى كلمة تشد من أزرهم وتبل رمقهم، كلمة حق تصدح في عالم يعج بالظلم، ونظام دولي هو الأكثر انحيازا وبطشا ضد العرب والعروبة والإسلام والمسلمين. من هنا نكتب اليوم احتفاء برجل في زمن عزت فيه الرجولة، وبقامة كبيرة علت على قامات الصغار، وبقيمة جليلة في أيام انتهكت فيها القيم وأهدرت المبادئ وداست نعال الخونة والمتآمرين على معاني الوطنية والعروبة والانتماء والأصالة، نحتفي ونحتفل ونزهو اليوم بمرور سنوات تسع على تولي جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين عرش المملكة العربية السعودية، ذلك البلد الذي يمثل عمودا راسخا من أعمدة الخيمة العربية، وحصنا من حصون العروبة والإسلام، ورقما صعبا في معادلة الأمن القومي العربي. والحقيقة أن الكتابة عن جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمر في غاية الصعوبة، لأنه ملك عز أن يوجد له نظير بين الملوك، وسطر بمواقفه الوطنية والقومية والعروبية اسمه بحروف من نور في تاريخ العالم العربي والإسلامي، ووضع نفسه في المكانة اللائقة بين زعماء العالم الذين لم يستعصموا بغير الله والشعب، وكان مثالا ساطعا على الانحياز لبلده ودينه وأمته. انحاز للناس فأحبه الناس، واختار الشعوب فاصطفاه الشعب ورفعه إلى أعلى عليين. جثوم الاحتلال ------------- قبل 30 يونيو 2013 كانت مصر تتأرجح بين اليأس والرجاء، ينظر شعبها في حسرة إلى ما آلت إليه بلادهم على يد التنظيم الإرهابي الذي استطاع في غفلة من الزمن أن يصل إلى قمة السلطة، ويجلس أحد أفراد هذا التنظيم على نفس الكرسي الذي جلس عليه أحمس وقطز وصلاح الدين الأيوبي ومحمد علي وجمال عبدالناصر وأنور السادات، كانوا ينتظرون الخلاص من ذلك الاحتلال الإخواني الذي جثم على صدر المحروسة يعد على أهلها الأنفاس ويقصي الوطنيين، ويقرب كل مرتزق وعميل، ويشارك بالفعل والقول في مؤامرة دنيئة على الأمة العربية والإسلامية، ثم جاء الخلاص في 30 يونيو، وخرج الشعب المصري رافعا رايات التحدي، رافضا أن تتحول مصر إلى لعبة في أيدي الخونة، وأن تكون جزءاً من مؤامرة دنيئة تستهدف الوطن والعروبة والإسلام، واحتضن الجيش الشعب وخرج بيان 3 يوليو يعلن انتهاء الحكم الإرهابي، ويرد للشعب حريته وكرامته ودولته. كلمات شافية ------------ لكن المتآمرين الدوليين وأدواتهم وعملاءهم المحليين والإقليميين، عز عليهم أن تتحرر مصر، وأن تعود إلى حضن شعبها وأمتها، فراحوا يوجهون سهام حقدهم ومؤامراتهم إلى الشعب والجيش، وكان الوقت عصيبا والرياح العاصفة تهب من كل حدب وصوب، حتى صدح صوت الحق وجاءت الكلمة الفصل من أرض الحجاز، من قلعة من قلاع العروبة، جاءت الكلمات الشافية على لسان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله يعلنها صريحة مدوية، لا للمساس بمصر وأمنها، لا للتدخل في شؤونها الداخلية، لا لدعم المؤامرات وتأييد الخونة والعملاء، صدحت كلمات الملك عبدالله في أنحاء الدنيا فصمت آذان الباطل وأعمت عيون المتآمرين، ووقف سدا منيعا في وجه المؤامرات. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك البيان التاريخي، لم يكن له مثيل، ولم يكن له نظير إلا بيان الملك فيصل حين أعلن وقف تصدير النفط العربي إلى الدول الداعمة لإسرائيل أثناء حرب أكتوبر 1973. ولم تكتف المملكة ولا الملك بالبيان التاريخي، بل خرج في اليوم التالي وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، ليحذر وينذر، ويؤكد أن المساس بأمن مصر خط أحمر، وأن على الذين يتشدقون بالحرية والديمقراطية، ويروجون لفرية الانقلاب العسكري أن يلزموا حدودهم، وأن يعرفوا أن مصر ليست وحدها وأن أشقاءها معها في نفس الخندق وعلى نفس الصف. تحالف عربي ------------- لم يكن هذان البيانان من قبيل الكلمات الحماسية أو الجمل الإنشائية، لكنهما كانا تدشينا لتحالف عربي جديد يعلي من المصالح القومية والعربية، فوق كل مصلحة، ويضع الأمن القومي العربي في موضع يليق بالأمة وشعوبها، فقد تبع البيان الملكي السعودي بيان إماراتي ثم بيان كويتي ثم بيان بحريني ثم بيان أردني، فاتضحت الخارطة وتحددت التحالفات وسكت الصغار عندما تكلم الكبار، ولعلي هنا أنقل شعور الشعب المصري عندما أقول إن المصريين أحسوا في تلك الأيام أن لهم صوتا يخرج من القاهرة وآخر يصدح في الرياض، وأن الديوان الملكي السعودي ووزارة خارجية المملكة صارا مصريي الصوت وعربيي الهوية بامتياز ودون لبس أو شك. غير أن ذلك التحالف الذي دشنه خادم الحرمين لم يكتف بالأقوال والمواقف السياسية الداعمة، بل امتدت يد المملكة إلى مصر بالدعم المالي العاجل، وقدمت المملكة مليارات الدولارات دعما للاقتصاد المصري، وعونا للشعب المصري في عثرته، ووقوفا في وجه التهديدات التي وصلت إلى حد الحصار الاقتصادي على مصر وشعبها، إيمانا من خادم الحرمين بأهمية مصر ودورها ومكانتها وإدراكا لحجم المؤامرة التي تحاك ضد الأمة العربية. أعود إلى تلك الأيام العصيبة قبل 30 يونيو 2013، كنت وقتها أحد ضيوف مهرجان الجنادرية السعودي العريق، قال لي يومها الأمير متعب نجل الملك عبدالله، إنه رأى والده يطيل في السجود، فسأله: ما الخبر يا أبي؟ فرد الملك القومي العروبي: إنني أدعو الله لمصر أن يرفع عنها البلاء. هكذا وإلى هذا الحد كان الملك عبدالله يتألم لألم المصريين، ويرجو للمحروسة استعادة مجدها ودورها. خط أحمر --------- لقد أجبر الملك عبدالله الرئيس الأمريكي باراك أوباما على الرضوخ للإرادة العربية، فقد ذهب أوباما للسعودية متصورا أنه سيأمر فيطاع، غير أنه تلقى وقفة قوية من خادم الحرمين الشريفين. لقد طلب الملك عبدالله من أوباما التوقف عن العبث بأمن مصر، وطلب وقف الدعم الأمريكي للإخوان، وأكد له أن مصر وأمنها وشعبها خط أحمر، وأن العبث بالأمن القومي العربي ومحاولة تفكيك وتقسيم الدول العربية مرفوضة ولن يتم السكوت عنها، قال الملك عبدالله بالنص لأوباما «كل بلد يختار نظام حكمه وفقاً لتقاليده ونظامه، ولن نسمح بفرض رؤية معينة تتصادم مع تقاليدنا وعقيدتنا. ونطالبكم بمراجعة موقفكم من مصر والعالم العربي، خاصة مصر، لأنها بالنسبة لنا تعني المصير المشترك ولن نسمح بسقوطها في يد الإرهاب». قال الملك عبدالله الكثير في ذلك اللقاء العاصف، وجلس أوباما يستمع إلى الدرس من أستاذ قدير له من الحكمة والمعرفة والتجربة أضعاف ما لهذا الكاوبوي الذي ظن أن بإمكانه تغيير النظم وتقسيم الدول وفقا لمطامعه وأهوائه. غير أنه من الظلم أن نعتبر موقف خادم الحرمين والمملكة العربية السعودية في الثلاثين من يونيو وما بعده، هو بداية المواقف القومية والعروبية للملك والمملكة، فقد كان الملك عبدالله ومنذ توليه الحكم عروبي التوجه قومي الهوى، وكان دائما حريصا على تعزيز التضامن العربي ونبذ الخلافات بين الدول العربية كافة. ولعلنا لا ننسى خطابه البليغ والمؤثر في قمة الكويت الاقتصادية التي دعا فيها إلى تضامن عربي حقيقي، وحذر من محاولات المساس بالأمن القومي العربي، وأكد أن الخلافات العربية - العربية وصلت إلى مرحلة تهدد أمن الأمة وسلامتها ومصلحة شعوبها، وكان للخطاب المدوي صدى هائل في أنحاء الوطن العربي. قضية العرب -------------- ولا يمكن لمنصف أن يتجاهل دور الملك عبدالله في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية وشغلهم الشاغل، فقد كان الملك في خندق الدفاع عن فلسطين العربية، وحق شعبها في إعلان دولته المستقلة. وقد كانت الرياض وما زالت من أكبر الدول المانحة للسلطة الوطنية الفلسطينية، كما أن مشروعاته للحفاظ على تراث فلسطين وهوية القدس العربية معروفة للقاصي والداني. بيان تاريخي ------------- اشتدت الحملة الشعواء على مصر والمشير عبدالفتاح السيسي، خاصة بعد إعلان ترشحه للرئاسة، وكانت المملكة تقف قوية مساندة للشعب المصري وخياراته، وما إن أعلنت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز السيسي بمنصب رئيس الجمهورية، حتى كانت السعودية وملكها أول المهنئين وأصدر خادم الحرمين بيانه التاريخي الثاني أكد فيه أن «المساس بأمن مصر مساس بالعروبة والإسلام والمملكة العربية السعودية». وهذا معناه أننا نتحدث عن بلد واحد، إذ يجمعهما هم واحد ومصالح مشتركة، ويرى المساس بمصر مساسا بالأمة العربية وبالإسلام، وكأنه يرى أن العروبة لا تكون إلا بمصر وأن الإسلام لا ينتصر بغيرها. ولكلمات الملك معاني إنسانية رفيعة ربما لم يتطرق إليها كثير من المحللين، فالرجل لم يجد حرجا في أن يربط أمن وسلامة مصر بالعروبة والإسلام، وهو حاكم لبلد الحرمين الشريفين وإحدى كبريات الدول العربية، لم يخجل الملك من أن يعلي من شأن مصر وهامتها وقامتها، فالكبار دائما يسعدون بقوة ومنعة أشقائهم، أما الصغار فهم وحدهم من يحطون من شأن الآخرين لتعلو هامتهم. لكن هل توقفت المملكة عند هذا الحد، وهل اكتفى خادم الحرمين بذلك البيان التاريخي؟ لا.. فقد دعا الملك عبدالله إلى مؤتمر للمانحين وأصدقاء مصر لدعم الاقتصاد المصري، تلك الدعوة التي تدرك حجم المشاكل والأعباء التي تثقل كاهل مصر والمصريين. والذي يعرف حجم وثقل المملكة العربية السعودية السياسي والاقتصادي في العالم، يدرك حتما أهمية أن تخرج تلك الدعوة من الرياض وعلى لسان ملكها الجليل، فعندما تتحدث المملكة عن هذا المؤتمر فهي تلقي بثقلها الاقتصادي والسياسي ومكانتها المعنوية في العالم العربي والإسلامي خلف مصر وقيادتها الجديدة تأكيدا وتعميقا للحلف العربي الجديد ومساندة للدولة التي تحمل عبء الدفاع عن الأمة حربا وسلما. نائب الملك ------------ ثم كان حضور نائب خادم الحرمين الشريفين الأمير سلمان بن عبدالعزيز على رأس وفد رفيع المستوى، حفل تنصيب الرئيس عبدالفتاح السيسي رسالة قوية للعالم كله، رسالة مفادها أن القاهرةوالرياض تنصهران في كيان واحد، وأن القاهرةوالرياض هما عاصمتا الأمة العربية وقلبها النابض، وأن القاهرةوالرياض لن تسمحا للمتلاعبين والمغامرين والمتآمرين بالعبث بالمصالح العليا للشعوب العربية. إن مقام التهنئة بالعيد التاسع لجلوس الملك عبدالله بن عبدالعزيز على عرش المملكة العربية السعودية لا يمنعنا من تدبر المعاني العميقة للرسائل المصرية والسعودية التي جرت خلال السنة الماضية، فمواقف الرياض الداعمة للقاهرة لم تكن مجرد مواقف أخوية من دولة شقيقة، بل كانت وعيا وإدراكا كاملا بحجم الأخطار والتحديات التي تواجه الأمة في تلك الفترة العصيبة من تاريخها. لقد حاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر حلفائها في المنطقة، أن تعيد صياغة حدود المنطقة وتقسم بلدانها إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، وأن تعطي زمام القيادة إلى دول غير عربية تتحكم بمصيرها ومصير شعوبها. كان ذلك الإدراك للخطر هو المحرك الرئيس للسياسات السعودية، وكان الخوف على الأمة ومصيرها وأمنها وسلامة شعوبها هو الباعث وراء الطوفان السعودي الهادر الذي أعاد للمنطقة توازنها بعدما استطاعت مصر كسر حلقات المؤامرة على الأمة في 30 يونيو. طلقة تحذير ----------- وكانت القاهرة حاضرة، تلقت الرسالة وردتها سريعا، جاءت المناورات المصرية السعودية طلقة تحذير لكل من تسول له نفسه العبث بالأمن العربي، ثم تلتها المناورات المصرية الإماراتية، ثم المناورات المصرية البحرينية، ثم قوات التدخل السريع المصرية التي كانت آخر إنجازات المشير السيسي في القوات المسلحة قبل ترشحه للرئاسة. ولم يحاول المشير السيسي المواربة أثناء حواراته في فترة ترشحه للرئاسة، فقال بوضوح ودون لبس إن مصر لن تسمح بالاعتداء على أي دولة عربية، وإن الجيش المصري سيكون حاضرا للتدخل الفوري حال وقوع أي اعتداء، ثم عاد ليؤكد نفس المعنى في حوار آخر بكلمات أقوى، وكان تعبير «مسافة السكة» تجسيدا حقيقيا وإشارة واضحة لتوجهات الدولة المصرية، ولقوة وإمكانات الجيش المصري. رسالة القاهرة ---------------- جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ونحن نحتفل بذكرى جلوسك التاسعة، ونتمنى لك دوام الصحة والعمر المديد والحكم الرشيد.. من القاهرة.. من بيت العرب وحضن العروبة، نعبر لكم عن خالص الامتنان لهذه المواقف القومية والوطنية والعروبية التي سيخلدها التاريخ، لقد جسدتم بمواقفكم العظيمة المعنى الحقيقي للتضامن العربي، والمعنى الراسخ للأخوة العربية، بالفعل لا بالقول، بالعمل لا بالشعارات، لقد تاجر الكثيرون من الحكام عبر سنوات طوال بشعارات العروبة والقومية، لكنهم في وقت الشدائد أداروا ظهورهم للعرب والعروبة، تماما كما تاجر غيرهم بالدين الإسلامي الحنيف ثم رأيناهم أعداء للدين والإسلام والمسلمين، لكنكم كنتم سيفا ودرعا للعرب والمسلمين. يا جلالة الملك، إن مصر والمصريين لن ينسوا أبدا تلك المواقف الشجاعة التي ستخلد في التاريخ. *رئيس تحرير جريدة الاسبوع