الشرق الأوسط هناك قراءات متعددة ل«داعش»، لكنها، كما جرت العادة في فهم وفحص التنظيمات الجهادية، قراءة تعتمد منهجية وعقل القارئ وليس المقروء، «داعش» في ذاتها، ولذلك لا يسلم كثير من تلك القراءات من نتائج مضللّة تزيد الأمر التباسا. هناك ثلاثة مستويات يمكن قراءة «داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)» عبرها للخروج برؤية واضحة ودقيقة، هذه الرؤية ستلازمنا طويلا، كما أتوقع، بسبب الانتشار السريع ل«داعش» وقرب ابتلاعها المشهد العنفي بعد تجاوز حدود الخلاف بينها وبين «القاعدة» من التضارب في الرؤى والمواقف السياسية إلى الاختلاف الجذري والهويّاتي والفكري (هناك تراث مهم جدا قابل للفحص متمثل في ردود ورسائل الطرفين كليهما تجاه الآخر). أبو محمد العدناني في رسالته الأخيرة، التي سبقتها بالطبع نقاشات وجدل طويل في المنتديات الجهادية وحسابات «تويتر»، رسم حدود العلاقة بينه وبين «القاعدة»، فهو يصرّح أن «القاعدة» الآن خارجة عن سياق وخط مؤسسها بن لادن، وأن الظواهري ما هو إلا نسخة مشوهة وناقصة عن حلم دولة الخلافة الذي رسمه أسامة ورفاقه في بداية العهد. إذن المستوى الأول يجب أن يتحدد في قراءة «داعش» وتوصيفها لذاتها، بوصفها تيارا أمينا ومحافظا على التراث القاعدي الذي اختطفه جناح الظواهري. والمفارقة هنا أن مساهمة الظواهري وآخرين طارئين على «القاعدة» هي التي تسببت في تحويل «القاعدة» من تيار جهادي مرتبط بمناطق التوتر ومسكون بالعقائدي أكثر من السياسي، إلى تنظيم عالمي معولم، وبالتالي فحجّة «داعش» أمام أنصار فكرة «القتال المسلح العابر للحدود» أكثر معقولية من غيرها، وهذا سياق مهم يوضح سبب تفوّق تسويق «داعش» لنفسها، على محافظة «القاعدة» التقليدية على زبائنها القدامى. ويمكن القول هنا إن من أهم الأسباب وجود مشروع واضح (مشروع دولة) يبدأ من الاسم، «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وبالتالي، هنا توسيع للحلم يتجاوز طموح «القاعدة» الذي كان يسعى لاستهداف المصالح الأميركية والأنظمة الموالية لها، فهو بهذا المعنى «مشروع تدميري»، وليس مشروعا يطمح لتوطين فكرته في دولة، بخلاف «داعش» التي تعيش حالة الدولة قبل تحققها. وربما هذا الاستعجال في تطبيق الحدود والقصاص ورفع الأعلام ولوحات السيارات التي تشير ل«الدولة»، جزء من الدعاية والطموح في آن لتحقيق هذا المشروع، الذي أخفقت «القاعدة» فيه. المستوى الثاني من القراءة هو حدود الانتشار، فمنذ إنشاء «القاعدة في جزيرة العرب» مؤخرا بوصفها حركة تصحيحية للحفاظ على ما تبقى من كوادر «القاعدة» التنظيمية ولمّ شتاتهم عبر اليمن، واستهداف السعودية، وللمزيد من الكوادر والتمويل.. منذ تلك اللحظة و«القاعدة» وأخواتها تنظيمات محلية مرتبطة بمناطق التوتر في اليمن والعراق والقرن الأفريقي، وصولا إلى الشمال، بينما تسعى «داعش» إلى تثبيت مفهوم الدولة، لكن مع الانفتاح على شرائح جديدة تستهدفها بالاستقطاب، وهنا سرّ التفوق السريع في استقطاب أجيال جديدة لم تنتسب ل«القاعدة»، ولا يمكن أن تغريها فكرة الارتباط بتنظيم مغلق في منطقة نائية جنوب اليمن على أن يحظى بفرصة القتال في الشام، وتحقيق مشروع الدولة ولو بطريقة متوهمة في مجتمع مصنوع وصغير يتبع التنظيم، لكنه يشكل العالم كله لمن يعيش فيه (من المهم قراءة تجارب وسير الداعشيين لفهم هذه الشعور)، وربما ساهم ضخ «داعش» عناصر أوروبية اعتنقت الإسلام حديثا، في خلق مجتمعات بكر لفكرة رغم عنفها وقسوتها، فإنها مغرقة في المثالية في عالم مضطرب سياسيا. «داعش» لا تعد أتباعها بالحور العين فحسب، وإنما بعيش حياة إسلامية تطبق فيها الحدود ويقتص فيها من المرتدين.. إلخ. تفوّق «داعش» المتوقع سيكون بكسر الجليد السياسي بينها وبين تنظيمات عنفية أخرى سنية وشيعية، وهذه خطوة لم تجرؤ عليها «القاعدة» صراحة، رغم العلاقة الجيدة مع إيران، إلا أن العدناني لمّح إلى مسألة العلاقة بإيران، وأن «داعش» لم تستهدفها ولا تسعى لذلك، وهو ما يفتح المجال لخيارات سياسية جديدة يمكن التنبؤ بها في حال سقوط وانهيار نظام بشار، وهو قيام تحالف عنفي بين تنظيمات مسلحة ذات طابع سياسي بغض النظر عن مرجعيتها الدينية. وسقوط المرجعية الدينية كان تأثيره واضحا في تفوق خطاب «داعش» لأتباعها على حجج الظواهري، ف«القاعدة» رغم موقفها ومسلكها العنفي، فإن علاقتها بالمرجعيات الدينية كانت متباينة حسب المراحل التي مرت بها، إلا أنها لم تنقطع عن مرجعيات من خارجها حتى آخر لحظة، بينما تقفز «داعش» على المرجعية الدينية، وهو ما يعني إنتاج خطابات شرعية جديدة تتواءم مع مواقفها السياسية، كما أنها تقفز على تراتبية «القاعدة» وتنظيمها الهرمي. ومن هنا رأينا إطالة العدناني في نقضه بيعة الظواهري، بل وحتى بيعة «القاعدة» لطالبان، وهو مستوى جديد. «داعش» تسعى إلى فتح حرب إقليمية مفتوحة تكون هي أحد أطرافها المهيمنة، ومن هنا يعلن العدناني انتقال عمل التنظيم من الحالة السورية إلى حرب مفتوحة في كل البلدان التي وصف أنظمتها بالطاغوتية، هذا الطموح المشبوب برغبة عارمة في التدمير يستهوي «صبيان القاعدة» الذين يرون في «داعش» حركة تصحيحية جاءت في وقتها بعد انهيار وترهل تنظيمات سياسية ذات طابع ديني وصعود خيار «العنف» شعارا للمرحلة. [email protected]