الحياة - السعودية كلما هممت بكتابة مقالة سياسية أعلن القلم عصيانه، وحار بي الفكر، ثم لا يلبث أن ينتزعني من مغبة مطب كنت سأنزلق فيه، ثم أعود إدراجي إلى ما يليق البوح به، من دون تجشم عناء التسفيه و«التتفيه»، على رغم طرق بعض القضايا الساخنة التي نختلف عليها ونتفق، ليس تنصلاً من المسؤولية بقدر ما يكتنف أقلام المحللين السياسيين، ولاسيما العرب منهم من عجز عن اختراق حاجز الصور النمطية والذهنية المغيبة في دهاليز الاستقطابات لكل القضايا السياسية، وما يستجد على ساحات السياسة من أحداث لتظل منساقة عنوة خلف العواطف الجماهيرية التلقائية والساذجة، وفي كثير من الأحيان تأتي لتعبر عن حال التباس وتلبس كاملين بالسياسي أحياناً والديني في أحايين كثيرة، لتبدو خارج سياقات المعقول. فالسياسة العربية تكاد تنضح بالشعبوية حتى لو ذيلت بأغاني الفنان القدير شعبان عبدالرحيم، سيوجد لها ألف مبرر ودافع، لذلك يقف المحللون قريباً جداً منها، يمارسون تلك اللعبة نفسها التي يجيدها أي سياسي محنك (أعني لعبة الأكاذيب) لأسباب كثيرة، منها ما يعود إلى الخوف من السباحة ضد التيار، ومنها ما ينساق خلف المصالح المرسلة برمتها تتجاذب مع الواقع من دون الغوص في تفاصيل الباطن، وقراءته بما يليق به، لذلك دائماً ما يراهنون على تلقائية الشعوب العربية وفطريتها، سهلت عليهم هذه العقلية التلقينية عملية حقنها بكل ما هو فاسد من التحليلات السياسية البراغماتية والديماغوجية في الوقت نفسه. سواد الناس غير مسؤولين بشكل كامل عن هذه المحصلة أو النتيجة الحكمية الممنهجة التي قد ترى من زاوية ضيقة أنها جائرة، للأسف هو ما يعِّبر عنه واقعنا المتلبث بإرث سياسي ثقيل جداً، وفي كل حلقة منه نكتشف خطأنا ونداري سوأتنا بالانقلاب عليه سريعاً، لنبدأ بإحصاء سريع يشبه الجرد التاريخ لمحتوى السياسة العربية تجاه الأحداث منذ منتصف القرن الماضي، لنعرف كيف أسقطنا فرصاً ثمينة من حياتنا كانت أحرى بها أن تغير ملامح واقعنا المعاش اليوم. كان الإعلام يمثل دور الناقل الممسوس بكل هذا المتغير يقف بتحيز طاغ، فماذا يمكن أن يحدث لو أن الإعلام تجرد بمعية مشاركة كل العقلاء من مفكرين وفلاسفة وسياسيين لدفع العرب لمناقشة رأي الحبيب بورقيبة بقبول قرار المنظمة الدولية عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين، وقراءته وفق معطيات الواقع، وإصدار الحكم العقلاني الفصل؟ اليوم نقول لو قبل العرب بهذا الرأي لما حدثت كل هذه النكسات وعمليات التهجير وونهب الأراضي، والاستيطان والمجازر بحق الشعب الفلسطيني، ولن يوصم بالخيانة العظمى التي ألحقه بها بعض السياسيين العرب، وعلى رأسهم المجلس الوطني الفلسطيني الذي يطمع اليوم بجزء يسير من وطنه المنهوب لرفع العلم الفلسطيني ولاعتراف لها بدولة ذات سيادة؟ ولربما أقيم له تمثال ولقب برجل القرن. ثم ماذا يمكن أن يحدث لو أنهم حكّموا المنطق والعقل التفوا حول الزعماء العرب بالقول الصادق والحكمة السديدة لرأب الصدع بينهم، ووأد الخلافات المشيدة على حساب الشعوب العربية، والتواطؤ على نزع فتيل الحرب المحتملة وشيكة الوقوع مع إسرائيل، بجيش لم يكن مجهزاً تجهيزاً جيداً عدةً وعتاداً. ماذا يحدث لو أن سدنة الإعلام ومحللي السياسة وقارئي الأحداث غاصوا في عمق فراغات النصوص وهوامشها، وقدموا رؤيتهم الاستشراقية المبنية على معطيات الواقع.. هل ستقوم إسرائيل بعملياتها الخاطفة بما تسميها حرب الأيام الستة، وتنهش أطرافاً مهمة وحيوية من مصر وسورية والأردن، وتنهي جولة الصراع الأولى بنصر ساحق، وتوقعنا في هوة الهزيمة التي لا يمكن ردمها حتى اليوم، بينما نحن مرتكسون في حال تمزق وصراعات وشتات. ماذا يمكن أن يحدث لو أن إعلامنا المستنير مارس دوره كما ينبغي، ووقف وقفة صادقة وصارمة مع السياسي المنجذب لإرادات وأطماع شتى، وغلّب مصلحة الوطن على أي مصلحة محتملة تأتي من الخارج، وقدّم مشورته الصادقة، وحذّر من استقطاب بذرة «الإخوان» وزرعها في تربة سلفية كمن يضع سلكين كهربائيين عاريين من بعضهما في تربة رطبة ويتركهما للرياح تتلاعب بهما كيفما تشاء. هل سنضطر - كما نفعل اليوم - إلى محاولة اقتلاع جذورها الضاربة في أرواح كثير من الناس اليوم؟ حتماً ستقتلع معها أشياء أُخَر. ماذا لو قام سدنة الإعلام بمؤازرة كل القوى لسحب البساط من أيدي دعاة الجهاد؟ برأيكم، هل سنقحم بكل القضايا الجهادية الخارجية كأفغانستان وغيرها؟ وهل سنعرف معنى القاعدة؟ وهل سينغص وجودنا فلول الإرهاب التي انحدرت من كل حدب وصوب لتقتل وتدمر وترعب؟ ثم ماذا يمكن يحدث لو أننا وقفنا إزاء فعاليات «الربيع العربي» بعين المنصف لا المتجاوز، ووضعناها في إطارها الخاص لا منفعلين ولا فاعلين؟ اليوم نكرر الأخطاء نفسها، ويظل الإعلام السياسي كما هو لم يتغير كثيراً إلا في أدواته البلاغية، لا يستطيع سوى قراءة سطحية لا تغوص في عمق الأحداث، حتى تورطنا بالربيع العربي. صفقنا له في البدء بحرارة، ثم لما بلغت القلوب الحناجر نكصنا على أعقابنا وانقلبنا عليه، وسمّيناه الخريف العربي. كل ما تداعى إلينا الثورة الفرنسية ومآلاتها من دون النظر إلى واقع العالم العربي بيئياً نفسياً واجتماعياً ودينياً. العالم الأوروبي الذي انقلب عن الكنيسة ورفع يد الله الذي يمثلها البابا عن الناس، وسعى في دروب العلم، متخففاً من تبعات كثيرة جداً، لم يصل إليها ولا أعتقد بأنه سيصل إليها عالمنا ذات يوم، وهو قابع في ظل استبداد المرء لنفسه، وجعلها مأزومة من داخلها، متأزمة بالمحيط من حولها، لهذا وقف إعلامنا بلا استقلالية ولا فلسفة حقيقة، ولم يستطع بناء جسور مع العقل المفكر والسياسي والفيلسوف وحتى العقل الديني. الجسور المتضافرة في قراءات مستفيضة لكل المستجدات، وتخليصها من لجج العامة. كل ما نخشاه أن يقال لنا ذات يوم انتهى الدرس يا أغبياء. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@ [email protected] للكاتب