مكة أون لاين - السعودية 1- أشير بدءا بأني أحيل إلى تويتر بصيغة التأنيث، وقد شرحت ذلك من قبل وهو ديدني في كل كتاباتي عن تويتر، ثم إن هذا المقال يقف على أحد المظاهر الشائعة في خطاب تويتر ، والخطاب هنا لا يعني نصوص التغريد، ولسنا أمام نص إنشائي أو إبداعي نقف على خصائصه الأسلوبية والصياغية، ولكننا أمام حالة ثقافية من طبعها أنها مكشوفة وكاشفة في آن. فالتغريد نص تفاعلي يتحرك بناء على حال المتابعين والمتابعات، مع التغريدة وفيها وبها، وبمقدار ما تكون التفاعلية تكون حالة التغريدة بصفتيها البنيويتين: مكشوفة وكاشفة، فهي تفضح كل أسرارها كما أنها تكشف مكنونات المتابعين استجابة أو رفضا أو عبر إعادة التغريد (ريتويت)، وهذه كلها حالات كشف ثقافي تجعلك على بينة من سيرورة الثقافة وتمثل الناس لأنفسهم وتمثيلهم لها، في مشهد لحظوي تكون فيه حركة الأصابع على لوحة المفاتيح أسرع من حركة الذهن فتسبق التبصر والتدبر، مما يجعها كاشفة وفاضحة للمكنون قبل أن يراقبه سلطان التعقل والتفكر. وسأعرض هنا لشخصيتين في تويتر، هما أحمد بن راشد بن سعيد، ومحمد بن عبداللطيف آل الشيخ، والاثنان لهما حضور تويتري لافت من حيث تفاعلهما الإدماني في تويتر وكأنهما ساكنان فيها، ومن حيث تصرفهما اللحظوي مع كل حدث ومع كل حالة تغريد تنشأ فجاءة فيما بين الحسابات، كما أنهما معا يحظيان بشرائح عريضة من المتابعين، على أن حالة الخطاب هنا لا تخص الشخصين تحديدا، ولكنك سترى أنها حالة كاشفة لشرائح المتابعين لهما، من حيث تماهي المتابعين، وتبين أن لكل واحد منهما شريحته الخاصة التي تنساق معه في التغريد متوسلة بصوته واسمه ونظام تفكيره، وستكون هذه خصائص لهذه الشريحة وليس المغرد الأصلي سوى لسان حالهم ولسان ثقافتهم وميولهم والمعبر عن مكنونهم، يدل على هذا طريقة تمدد التغريدة بين الشريحة المتابعة والمتبعة، ثم طريقة دفاعهم عن صاحبهم عندما يخالفه أحد أو يناقضه أو يتهجم عليه، وهنا تكون أنت على مشهد من رسمة ثقافية متمددة تتفجر مع كل تغريدة حسب ما تحمله التغريدة من شحنة انفعالية تغري نهم الشريحة المتماهية مع المغرد وتتقوى بها حتى لتصبح قوة حسية ومعنوية لصاحب الحساب يركن إليها وقت المحاجة فيعمد إلى ذكر مؤيديه بوصفهم رهطه الحامي لمعنويته والمعزز لموقفه. ولكي نعرف مدى مفعولية هذا لنفترض أن كل واحد منهما لم يجد من يبارك له فعله ولغته، فهل سيظل يعمل الشيء نفسه أم سيبحث عن طريقة أخرى للتغريد تكسبه رهطا مساندا؟! هنا سنعرف مقدار وظيفية الرهط وأنهم هم صانعو الخطاب في حقيقة الأمر، وكأني بالمغرد منهما يتفكر يوميا بتغريدة تشبع رغبات شريحته (رهطه) وتبقي على الوهج التويتري من حوله، بحيث لا يخيب ظن أتباعه، والشاهد على هذا هو الطلبات التي تلحظها في حساب الاثنين من جمهوره لكي يعلق على حدث أو على تغريدة لشخص آخر، ولا تلحظ تبرما من هذه الطلبات، ولا صدودا عنها، وكأنه تحت الطلب ملبٍ حاجة رهطه لغذاء يومي يشعل يومهم ويصبغه بالصبغة المطلوبة. 2- يتميز الاثنان معا (ابن سعيد وآل الشيخ) في استخدامهما للغة تقوم على توظيف المخزون الثقافي لكل واحد منهما، فآل الشيخ يعتمد على تاريخ أسري ممتد يملك ذاكرة سياسية ودينية ويوظفها كمرجعية له، وابن سعيد يملك ثقافة لغوية تقوم على البلاغة التقليدية في السجع وفي الطباق والجناس والتورية، ومن هنا يصدر كل منهما عبر مخزونه ليصنع لغته في تويتر، مستخدما أقصى إمكانات اللغة وأشرس ما فيها فيضع هذا إحالاته لجده الذي لولاه (بعد الله) لكانت الطبيبة الشابة اليوم مجرد راعية غنم، والآخر سيوظف التورية لضرب ثلاث مذيعات بأسمائهن، فيأخذ مفردة وردت على لسان واحدة منهن في تقرير إخباري ويفرد الكلمة عن سياقها ويلعب على ما فيها من إيحاء جنسي كدلالة موشومة ويوقع المذيعة في مصيدته اللفظية، مثلما فعل مع زميلة لها أخرى واستخدم اسمها في تحويل لفظي يمعن في التعريض حد المساس بالأعراض، وهذا كله يتسق عند الاثنين مع لغة التوتير اللفظي والنفسي في القدح والتعريض والتجريح بأبشع لفظ يتمكن منه أحدهما، في مخاتلة بلاغية تستعمل لحن القول لتمرير مبتغاها دون تورع من تبعات هذا التلفظ (التغريد ...!!) . ثم يعقب ذلك بسيل جارف من المكابرة وقت النقاش حتى ليتصاعد اللفظ وتزداد التبادلات اللفظية لتصل إلى أعلى درجات التسفه في القول والفحش في المعنى. وقد دأب ابن سعيد على وصف كل من لا يعجبه بصفة (المتصهين)، وعمت هذه اللفظة عنده حتى لم يبق أحد ليس متصهينا سوى شخصه والطيور التي على شاكلته، وكذا تعرض آل الشيخ لكل الشعوب والفئات والثقافات والأشخاص بوابل من التوصيف الممعن في التوحش، ولم يبق أحد لذاكرة (جده) سوى من خاط ثوبه على مقاس الحفيد المغرد. 3- في مقابل صنيع الاثنين فإنك ستجد المخزن الحقيقي لهذا السلوك التويتري، وهو تجاوب شريحة كل واحد منهما معه، وهي الصانعة الحقيقية له، لأنها تسوق لغته وذوقه الخاص وشناعته اللفظية والمعنوية وتباركها كما تطلبها، ثم سترى قوتهم في الدفاع عن صاحبهم، فإذا استنكرت مساس أي منهما للأعراض جاءك من يرد بأن ابن سعيد يدافع عن دينه، وكأن الدين يسمح بمس العرض أو يسمح بالتطفيف في الدفاع عن الرفيق بدلا من الدفاع عن القيم، حتى ليصبح الصاحب أعلى من القيمة وأهم من محاذير الدين، لمجرد الزعم بأنه يدافع عن الدين (وأي دفاع هذا...) ،كما ستجد شريحة الآخر تقول إن صاحبهم يعري الغلاة والمتشددين، وكأن الطبيبة الشابة تتقنع بقناع دراكيولا بدلا من كمامتها الطبية، أو كأن المساس بالشعوب والتعريض بالقيم والأشخاص مجرد لعبة شطرنج على طاولة مقهى. وأطرف من هذا كله أن كل فئة من الشريحتين تلعن الأخرى، ولكنها لا تعارضها ناقدة للغتها ولمعانيها، وإنما فحسب تتوسل بسلوك مماثل في التبكيت والطعن وتبادل البلاغيات المتوحشة، وهنا ستصل إلى التصور الجوهري في أنك أمام شريحة نسقية واحدة وأمام نموذج واحد، حتى وإن لعن أحدهما الآخر، والحرب بين الاثنين هي أشرس ما يشهده المغردون من مشهد يومي، وكأن أحدهما هو أكسجين الآخر، ولو توقف أو اختفى أحدهما فات على الآخر نصف أسباب وجوده التويتري، وهذا مشهد للخطاب تكون فيه النسقيات مكشوفة وكاشفة، وهذا هو ذاك مهما تغيرت الأسماء والكلمات. 4- ولا بد أن أشير إلى سؤال مهم يتعلق بحرية التعبير وعلاقته بالمسؤولية، ثم بسؤال الثقافة الحقوقية، وهو سؤال تطرحه حالة تويتر بشكل ملح، فليس لمثف مثلي إلا أن يدافع عن حرية التعبير وبلا شرط ولا قيد، ولكن الحرية لا تستقيم إلا مع شرط المسؤولية وبمقدار ما أنت حر فستكون مسؤولا عن فعلك وقولك، وستتقلص المسؤولية فقط حينما تتقلص حريتك، أما وأنت حر فأنت مسؤول، ثم ستكون حينها في دائرة الثقافة الحقوقية، ولذا فإن واجب كل مثقف منا أن يضع الحالات هذه في منطقة المساءلة، وهي بالنسبة للمثقف ستكون بمثابة المساءلة الثقافية والنقدية. أما بالنسبة لنظام المجتمع فهي حق قانوني، لا بمنع الناس عن الكلام ولا بتقييد حركتهم، ولكن بالقول لهم إن كلامهم ليس رخيصا، وأنه ثمين، وثمن الحرية هو المسؤولية عن القول وعن الفعل، وهذا الدرس الذي يلزمنا أن نصنعه من تويتر وخطابها التفاعلي، حيث الحرية المطلقة مصحوبة بالمسؤولية المطلقة، وفي أمرنا يكون نقد الشريحة أهم من نقد المغرد نفسه، لأن الشريحة هي الشاهد النسقي الذي تجب تعريته وفضحه. 5- بقي أن أؤكد أن نقد الخطاب لا يعني نقد شخصين معينين، ولو صار الأمر بهذا الحصر لتقلص معنى النظرية النقدية إلى درجة التلاشي، ولكن وكما رأينا فالحدث التويتري يكشف عن شريحة نسقية، وليس عن شخصين اختارا سلاطة اللسان كوسيلة للتغريد. والنقد الموجه للشريحتين (وهما شريحة واحدة حسب الميزان النسقي) هو نقد مباشر يضعهما معا في مواجهة مع عيبهما النسقي وعماههما الثقافي، وبالتأكيد فإن دين وقيم شريحة ابن سعيد لا تسمح لهم أن يتقبلوا لغة الفحش اللفظي ولا المعنوي، ولن يرضوا بالتعريض بأسماء النساء وبتصريح مخجل وغير لائق بأي معيار، أو التوظيف لآيات القرآن الكريم، مما دأب عليه صاحبه ويسميه بلاغة ويتهم من يجادله بأنه جاهل بأساليب البلاغة، ويجاريه رهطه في ذلك، وينتهي بهم الأمر إلى تقديم نموذج هو أبعد ما يكون عن أي قيمة دينية وهو نقيضها التام، وكذا لن يكون في صميم ضمير رهط محمد آل الشيخ أن يجري توظيف تاريخ هذه البلاد وذاكرتها السياسية والثقافية لتصبح تبكيتا لأهل هذه البلاد، ومثلها الطعن بكل شعوب المنطقة بلا استثناء وبأقذع العبارات (تغريدات ...!!!)، وهنا يكون السؤال النقدي في مواجهة الفعل النسقي،ثم أولا يكون ما يفعله المتدين هنا تطفيفا وما يعمله الآخر هناك عمى ثقافيا، حينها سنكون على بينة حين ننقد خطاب تويتر.