الحياة - السعودية كم هو عجيب محيّر أمر واقعنا، مزيج من التناقضات والمفارقات، إن قلتَ إنه متخم بروح العاطفة لم تجاوز الحقيقة، قد تبلغ في بعضها حدّ «الهياط» - وهي كلمة فصيحة بالمناسبة، وإن قلتَ: كم هو بحاجة إلى روح العاطفة تذوقاً وتعبيراً لم تكن مبالغاً، في واقعنا مشاهد كثيرة تطغى فيها روحها وخطابها إلى درجة تُعمي العقل، وتُجاوزه، وتُرى في كثير من مَشاهدها سوقاً رائجة البضاعة للاستهلاك والمتاجرة والاستغلال.. وعلى النقيض من ذلك في واقعنا مشاهد كثيرة تُفتقد فيها العاطفة؛ حتى لتبدو لك كالأرض المقفرة المتصحرة، يُعد فيها البوح بالعاطفة والتعبير عنها عيباً، أو نقصاً وضعفاً، ينقص من أطراف الشخصية والرجولة والمروءة! من هذه المشاهد المتصحرة الجانية على العاطفة محاولةُ تجريدها من كل إنجاز، واتهامها بأنها عالة على العلم، وعبءٌ على العقل، وأن تُحسب للعقل إنجازاتٌ هي في الحقيقة من بركات «عاطفة» جاوزت حد العقلانية والتعقل، لولاها ما كان ليكون للعقل منجز، فكثير من الاكتشافات العلمية، والمخترعات التي تشكلت بها الثورة الصناعية وصارت مفرقاً في تاريخ الإنسانية كان الدافع المحركُ لكثير منها فيضاً عاطفياً متدفقاً هو الذي أشغل العقل وحركه ليكتشف ويخترع، بل العاطفة هي المحرك للحياة في سوائها وانحرافاتها. كثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية دفعتها وحركت العقولَ لها عاطفةٌ فيها معنى التضحية الجامحة المتمردة على منطق العقل الذي يسميها مجازفات ومخاطرات، وهل سيكون لعالم الطيران شأن لولا حبُ المغامرة والإقدام والتضحية والفخر...؟ وهل كان للطبيب البريطاني إدوارد جنر أن يكتشف التطعيم مناعةً من مرض الجدري «المرض المرعب في زمنه» لولا عاطفة التضحية والمخاطرة التي حملته على أمر هو في لغة العقل مجازفة ومغامرة غير محسوبة العواقب حين حقن ذراع صبي في عمر ثمانية أعوام بفايروس جدري البقر، وكان مرضاً خفيفاً غير مخوف؛ حتى إذا شفي منه حقنه مرة أخرى بفايروس الجدري المهلك؛ لكنه لم يُهلك الطفل بما اكتسبه من مناعة بعد إصابته بجدري البقر. والأمثلة في ذلك تكاد تستعصي على الحصر. في شأن العاطفة طرفان يحاربان العاطفة من وجه ويدافعان عنها من وجه آخر بطريقة أشبه بتبادل الأدوار، فالذين يستخفون بالخطاب العاطفي الذي يزعمونه طاغياً على لغة العقل، يقفون على نقيضه في صور أخرى، فينادون بالبوح بالعاطفة، ويحرضون على التعبير عنها وعدم كتمها تحت أية ذريعة، سواء ذريعة العيب أم غيره، ويدعون إلى تذوق جمالياتها إلى حد الاستغراق فيها، ويعدون ذلك ملمحاً من ملامح الرقي الحضاري والتقدم المدني، ويقابلهم من يستخفّ هذا التذوق والبوح العاطفي، ويعد ممارسته من تضييع الأوقات، ثم نراه أكثر الناس ركوباً لخطاب العاطفة والتلاعب بها إلى حد الاتجار! إن كل أمة تبحث في كل أزمة أو محنة عن حكيم تسترشد بعقله، وعن خطيب مفوه يلهب حماستها، ويوقد جذوة مشاعرها، ويرسّخ أواصرها، ويقوي عزائمها، ولكلٍ وظيفته التي لا يقوم بها الآخر، بالقدر الذي لا غلو فيه؛ لأن كل غلو في أحدهما هو جناية على الآخر، ومازلنا نعاني من هذا الغلو والإفراط في كلا المقامين إلى حدٍ جعلنا لا ندعو إلى العناية بأحدهما - العقل أو العاطفة - إلا وتتضمن الدعوة استنقاصاً من قدر الآخر عاطفةً أو عقلاً. وما من حضارة حاضرةً أو ماضية إلا وهي متشبعة من العاطفة بقدر تشبعها من إعمال العقل، ولا تجد أمة من أمم الحضارات المشهورة إلا ولحضارتها معالمها العاطفية والعقلية. إن السؤال الذي يتساءله بعضنا اليوم أين نجد مكاننا في مراقي النضج العقلي خطاباً وتفكيراً؟ ينبغي أن نلحقه بتساؤل آخر في درجة أهميته: وأين هو مكاننا في سلم الرقي العاطفي؟