الاقتصادية - السعودية مع استمرار التسريبات التي تُلمّح لقضايا فساد قد يواجهها رئيس الوزراء التركي، طيب رجب أردوغان. لم تعد "صورة" ذلك الشخص السياسي الذي يحارب الفساد في كل محفل وخطاب كما هي، وبات من الطبيعي أن تُثار حوله وحول "شفافية" الكثير من التساؤلات، خصوصًا بعد تسجيلات صوتية، تكررت فيها كثيرا عبارة "تصفير الأموال"، بعد أن كان الرجل الأشهر، سياسيا، بمصطلح "تصفير المشاكل". فما الذي يحرّك هذه الجماعات المعارضة؟ وهل معارضتها من قبيل التنافس السياسي أم أن هناك من الفساد ما يستدعي إعادة النظر في تلك الشعارات؟ وهل هي معارضة ضد حزب؟ أم ضد شخص؟ وهذا السؤال الأخير، برأي بعض المعلقين، أكثر ما يهم العالم العربي، المعني أكثر بالصورة "الملهِمة" لهذا "القائد" رجب طيب أردوغان. السلطان أردوغان والقضاء على تويتر مواقف أردوغان المتبدلة تجاه العلاقة مع إسرائيل وقضية فلسطين، أو غزة وأسطول الحرية. خلال 12 عاما من السلطة، إضافة لمواقفه الداعمة والمؤيدة لما سمي ب"الربيع العربي"، وغيرها الكثير من المواقف السياسية والاجتماعية. تستدعي بالضرورة صورتين لأردوغان؛ صورة محلية تركية، وصورة خارجية عالمية. الصورة التركية المحلية لأردوغان بسيطة جدًا، وتبحث من خلاله عن حلول اقتصادية ناجعة، سواء كان ذلك على يد حزب أردوغان أو غيره. وهي الصورة التي غُيّبت عربياً، تحت تأثير قوتين: قوة كامنة في شعوب يعتريها دائمًا الإحساس بأنها مغلوبة على أمرها، لذلك هي دائما على أمل وفي انتظار القائد المخلّص (السلطان). وهذا ما استغلته "الماكينة الإعلامية التركية" لحزب العدالة والتنمية (القوة الثانية) بتعاون مع الحليف الاستراتيجي (الإخوان المسلمين) للترويج لما يُسمّى "النموذج الإسلامي المعتدل". الماكينة الإعلامية التركية وأصابعها الأربعة الشهيرة، ليست حديثة عهد بالعمل في الترويج الخارجي، لصورة أردوغان ومن قبله صورة حزب العدالة. وكانت قد بدأت ذلك منذ أن كان عمدة لأسطنبول في التسعينيات ثم تكثّفت جهودها مع بداية الألفية الثانية وتحديدا بعد وصول أردوغان لرئاسة الوزراء. وقناة الجزيرة الذراع الإعلامية لقطر، كانت الأساس لهذه الدعاية الإعلامية، بل كانت من أقوى المؤثرين، أبرز ملامح تلك الفترة كانت الكثير من الخطابات واللقاءات الإعلامية التي تصبّ في تصوير أردوغان كقدوة في الشفافية والنزاهة والإدارة الحكيمة. ولكن هذه الجهود لم تتبلور عالميا وتُقطف ثمارها إلا بعد أحداث 11 سبتمبر، وتحديدا في عام 2004، فأوردت صحيفة «يني شفق» التركية، ذات التوجه الإسلامي، في 1/30/ 2004 خبرا مفاده أن الرئيس الأمريكي جورج بوش عرض على رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال استقباله في البيت الأبيض يوم الأربعاء 1/28/ 2004 معالم المشروع الأمريكي الجديد ل "الشرق الأوسط الكبير". وبحسب الصحيفة، فإن المشروع يجعل من تركيا عمودا فقريا، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، بحيث تتولى الترويج لنموذجها "الديمقراطي" و"اعتدالها" الديني. وتضيف الصحيفة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن "تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج "الاعتدال" المطبّق في بلادهم". الإدارة التركية، بحسب بعض المصادر الإعلامية، كانت أكثر فهما للطبيعة العربية والإسلامية من الأمريكية فيما يتعلق بالوعاظ. وعوضًا عن أن تُبادر وترسل وعاظها مباشرة. تعاونت مع الوعاظ والأكاديميين والكتاب العرب المشهورين، كما استفادت من الحماسة الشبابية للديمقراطية، عربيا وخليجيا، لترويج هذا النموذج من "الديمقراطية" و"الإسلام المعتدل". وما رافق ذلك من تكثيف للسخط العربي على الأنظمة، من خلال استعراض صور لنماذج مسلمة "ديمقراطية" و"نزيهة" كأردوغان. هذا التوجه الذي تماهى مع دور السياسة القطرية، وذراعها الإعلامية قناة "الجزيرة"، كوسيط في الترويج وعقد الصفقات، الفكرية والمادية، مع المقتنعين بذات "الفكرة التوسعية الأممية". وكل ذلك تم تتويجه بأدوات جديدة، كتويتر والفيسبوك. التي وفي مفارقة بديهية ستنقلب على أردوغان، حين تُساهم في تسريب مكالمات "تصفير الأموال"، ليتوعد أردوغان، في تصريحات حديثة، بإغلاق فيسبوك ويوتيوب، والقضاء على تويتر. وهذا ما فعله بالفعل قبل أيام. البرجوازية الإسلامية.. من الاقتصاد للسياسة وحتى لا تبقى الصورة السابقة تحت رحمة "نظرية المؤامرة" كان لا بد من محاولة رصد عوامل تأرجحت بين "الاقتصاد" و"نظرية المصلحة". أردوغان سياسي في المقام الأول وشيوعي سابق، وحزبه وداعموه في مجملهم أصحاب تاريخ اقتصادي مالي طويل، في شكل "مصرفية إسلامية" وشركات سياحية ذات علاقات قوية فيما بينهم، عائلياً ومالياً. وبحسب متخصصين, ليس التاريخ أو الميراث العلماني أو الديني هو ما يحركه ويحركهم، بل السلطة والقرابة والتجارة. وهو ما يشرح الكثير من المكاسب الاقتصادية الخارجية التي لم تكن لتتحقق وتتوسع شرقًا، بعد خذلان الاتحاد الأوروبي (غرباً) لتركيا، لو لم يضع أردوغان، ومن معه من "البرجوازية" الإسلامية السياسية التركية، يده بيد "البرجوازية" العربية، من عائلات وأتباع الإخوان المسلمين. بمباركة سياسات دول، ترى فيهم البديل الأنسب. البرجوازية الإسلامية العربية؛ النافذة هي أيضًا، في مجال المصرفية الإسلامية، والسياحة الدينية، والصناعات التقليدية، كصناعة النسيج وغيرها من الصناعات البسيطة، التي تتميز بأمرين؛ فهي صناعات ذات مردود جيد يُوفِّر رأس المال المطلوب لدعم أي حزب سياسي، إضافة لتوفيرها فرص عمل لكثير من أفراد الطبقات الشعبية. مما يدعم موقف هذه الأحزاب سياسيا وهذا ما استفاد منه حزبا العدالة والتنمية، المصري والتركي، في جولاتهم الانتخابية، حيث اجتمع التنظيم والمال والشعبية. ولعله من المفارقة، أن نتذكر هنا انتقاد الرئيس الأسبق حسني مبارك لسياسة الإخوان الاقتصادية، في تصريحات صوتية، وهو يتحدث لأحد مرافقيه، بعد تنحيه وأثناء حكم الإخوان. والتي سرّبتها صحيفة "الوطن" المصرية. فخطأ الإخوان الاقتصادي السياسي، برأي مبارك، أنهم يتعاملون مع الوضع الاقتصادي بمفهوم "التاجر". وهنا يتحدث الخبير الاقتصادي الدكتور مختار الشريف للوطن معلقًا على حديث مبارك: "بالمفاهيم الاقتصادية التاجر يشتري ويبيع ولكنه لا ينتج شيئًا لم يكن موجودا من قبل، كما أنه يخزن البضائع ويخرجها لتحقيق منفعته الشخصية". ويضيف شريف: "في حكم مبارك كان هناك إنتاج، ولكن كان هناك أيضًا سوء توزيع للثروة". هذه النظرة اقتصاديًا، بحسب خبراء من قبل البرجوازيات الإسلامية، توّجت تجارتها "الحلال" بالحكم السياسي أو بالتأثير فيه. يقابلها نظرة اجتماعية شمولية، مفيدة سياسيا. وهذا ما يوضّحه الباحث حسام تمام في كتابه "تحولات الإخوان": فالغالبية العظمى لقواعد الإخوان المسلمين تتحدر من الطبقة الوسطى (البرجوازية) ورغم وجود الإخوان وانتشارهم في شتى أنحاء البلاد يقل وجودهم "التنظيمي" في الطبقات الفقيرة، ويهتم المسؤولون عن التجنيد بتجنب التوسع في ضم عناصر من الطبقات الفقيرة إلا لحساب "ميزات استثنائية" تتمتع بها هذه العناصر دون أن تكون هذه قاعدة معلنة". وبحسب تمام، فإن الانضمام للجماعة، ودعمها يصبح في حد ذاته إحدى آليات الصعود الاجتماعي في الطبقات الدنيا "إذ تتيح الجماعة لأعضائها فرصة للتحقق والصعود الاجتماعي من خلال "شبكة حماية اجتماعية كبرى"، وتساعد هذه الشبكة على تأمين الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للأعضاء والمساعدة للمتعاطفين والمؤيدين والأنصار، وتعتمد الجماعة في ذلك على سيطرتها وإدارتها لعدد كبير من المساجد ومؤسسات البر والصدقات التي تمارس دورا مهما في غياب مظلة حماية من الدولة". البديل جاهز و"الصورة" من الماضي التهديد الذي يلوح اليوم ببروز نجم "كولن" ليس بالأمر الهيّن على أردوغان وحزبه، فإذا ما كان أردوغان قد نجح عربيًا بعد كل هذه الدعاية المكلِفة في ترويج صورته كقائد إسلامي معتدل، إلا أن خلافه مع الإدارة الأمريكية حول كثير من الملفات السياسية أخيرا. وبروز كولن وجماعته (الخدمة) كمعارض، أو منشق، بعد أن شارك أردوغان وحزبه في تحييد النخبة العلمانية والجيش، يُعرّض هذه الصورة الأردوغانية للخطر. فجماعة كولن تدير، هي أيضاً، شبكة ضخمة من المدارس والشركات ووسائل الإعلام وتمتلك قنوات تليفزيونية عديدة، منها الإخباري والثقافي. كما تمتلك صحيفة "زمان" اليومية واسعة الانتشار بالإضافة إلى المراكز الثقافية المنتشرة في تركيا والعديد من الدول في خمس قارات. وبالنتيجة فكولن نِدّ قوي ومؤثر كبديل إسلامي "معتدل"، محليا وخارجيًا، في حال غيّر من رأيه، وقبل بالعمل السياسي. وفي حوار أجرته صحيفة "نويه زوريشه" عام 2010 مع الكاتبة الأمريكية "روز إيبو"، مؤلفة كتاب "حركة غولن"، سُئلت "إيبو" كيف يجب أن يتعامل الغرب مع حركة غولن، فأجابت: "ألتزم هنا برأي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت ورجل وكالة المخابرات المركزية "سي أي أيه" السابق غراهام فولر، فهؤلاء يقولون: إن علينا أن ندعم مثل هذه الحركات، لأنها تُعَد بديلاً للأصولية". وعن أسباب الخلاف بين كولن وأردوغان يقول المراسل الصحفي والخبير الألماني في شؤون تركيا، الدكتور "غونتر زويفرت"، في حوار مع قناة "دويتشه فيله": "هناك أسباب عديدة للخلافات الحالية القائمة فقد عملت هذه الحركة (كولن) على توسيع نفوذها في أجهزة الدولة أكثر بكثير مما تسمح لها به الحكومة". وكما أن الطبيعة البرجوازية الإسلامية، التي ارتكزت على جمع الثروة، وتوظيف الدين في السياسة، كما تبين سابقًا، هي من جمعت بين أردوغان والإخوان المسلمين العرب. فإنها هي أيضًا، من ستفرّق بين أردوغان وحليفه السابق كولن. فهذا الصراع بين جماعة كولن وحزب أردوغان، ليس سياسيا أو شخصيا أو دينيا، بل هو، بحسب الدكتور زويفرت، "صراع على الثروة". يقول "زويفرت": "لا تتكوّن حركة كولن فقط من العاملين في المدارس والكوادر الإدارية، بل كذلك أيضًا من رجال أعمال يرغبون في جني المزيد من الأرباح من ثمار الدولة - أي من المناقصات والأشغال الحكومية ومن تخصيص الأراضي لغرض البناء أو كذلك من برامج دعم التجارة الخارجية. وهذا يعني بحسب زويفرت أنَّ هناك الكثير من الثروة التي يمكن توزيعها، وحول هذه الثروة اختلف الطرفان". وتعليقا على تصريح ياشار ياقيش، أول وزير خارجية لسلطة حزب العدالة والتنمية عام 2002: "إن حزب العدالة والتنمية اليوم افتقد الإبداع والحماسة التي كانت عندما تأسس الحزب". يقول الدكتور محمد نور الدين، الأكاديمي والكاتب اللبناني المتخصص في العلاقات العربية التركية: "من المحقق اليوم أن سلطة أردوغان، بعد 12 عاما من الحكم، تعبت وترهّلت، وباتت تلك "الصورة - النموذج" من الماضي ومجرّد رسم معلق على الحائط للذكرى".