عكاظ - السعودية قدر المثقف أن يعيش حزينا ويموت حزينا. تتكالب عليه السلطات قريبها وبعيدها، الذاتية منها والموضوعية، حتى ليجد ذاته وحيدا إلا من ذاته، وقد أنهكته الطموحات المؤجلة وأرهقته الآمال المستعصية. تلك هي مسيرة المثقف في محطاتها المتباعدة لا يجمع شتاتها إلا التوتر والقلق وخيبات الأمل. بداية، يشكل التوتر منحنى العلاقة بين المثقف والسلطة، بحكم أن المثقف هو صاحب فكر نقدي مستقل ويمتلك رؤية يسعى من خلالها لإحداث تغيير في الوضع الراهن، بينما تسعى السلطة أيا كان مصدرها لتعزيز الوضع الراهن. وبنفس الدرجة يرتسم قدر المثقف كونه مدافعا عن قضايا الإنسان ويعمل بشكل دائم نحو دفع المجتمع لبلورة موقف منها، ما يجعله في عين العاصفة باعتباره عامل تغيير وليس ترسا في عجلة العادات والمتعارف عليه. والسلطة لا تعني الجهاز المركزي في الدولة، بل هي كذلك الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية. بعض هذه السلطات رسمي يحمل وسم الشرعية، وبعضها يتشكل خارج إطار السلطة الرسمية ويمارس ضغوطا لا تقل صرامة عن الرسمي. بعضها يملك سلطة المنع والمصادرة، وبعضها يملك سلطة تأليب الرأي العام بطريقة غير مباشرة قد تكون أشد إيلاما وأكثر تعسفية. والبعض الآخر من السلطات لا يقل ضراوة عن البوليس السري الذي يرقب سكنات المثقف وحركاته ليجعل منها حدثا فضائحيا. السلطة أيضا تتدخل في تأطير البرامج الثقافية في محاولة لوضع المثقف ضمن قالبها. لذلك نرى المثقف يخاف من ثقافته حتى لتصبح حملا ثقيلا لا يستطيع المحافظة عليها نقية شفافة بعيدة عن التزلف والمحاباة. هواجس المثقف تدفعه لأن يدخل في علاقة تصادم مع السلطة حتى يقلص الفجوة بينه وبين المجتمع ليلتقيا معا في نقطة محايدة. تطلعات المثقف تدخله في حالة تأزم، وقد تصل إلى حالة الصدام مع أوصياء السلطة. إن مراقبة المشهد الثقافي في معرض الكتاب أو غيره من المناسبات الثقافية تكشف بوضوح أن المثقف ما زال يدافع عن قضايا هي من البديهيات في المسار الإنساني وقد تجاوزها الفكر والتاريخ والشعوب؛ لذلك يجد المثقف نفسه مشدودا لأبجديات السجال الفكري بشكل يعيق بحق التطور المعرفي. كل تلك السلطات تجعل من المثقف دائرة تتكالب عليها الأحزان، فما إن يتصالح مع ذاته حتى وتبدأ معركة التصالح مع الآخرين الذين لا يجدون فيه إلا مشاكسا مشاغبا غير مؤثر وغير مرغوب فيه. تلك هي قائمة الأحزان وللمثقفة منها ضعفان أو أكثر، بحكم أنها تقع تحت طائلة أحزان المثقف مضافا إليها أحزان نسوية لصيقة بنون النسوة وتاء التأنيث. أحزان الذات المؤنثة تستدعي المرأة المثقفة في ثوب من خيبات الأمل ليست هي مصدرها بقدر ما هي مفروضة عليها تحت وابل من الشك والتوجس يمارسه «حرّاس النوايا».. أبعدنا الله وإياكم عن الأحزان.