لا تزال العلاقة بين المثقف والسلطة، أو المثقف والمؤسسة الرسمية، يشوبها الكثير من اللبس، غير بعيدة من التأويلات غير البريئة. الموقع الذي تحتله السلطة في الوطن العربي، لم يترك المجال مفتوحاً، للتعاطي معها من دون شبهات. كما ان الوضع الذي آلت إليه الثقافة وانعكاسه على المثقفين العرب أنفسهم، جعل من الثقة في المثقف وقدرته على الإفادة من نفوذ السلطة، دون أن تؤثر فيه سلباً، شيئاً يشبه المستحيل. كتاب كثر اشتغلوا مع السلطة وتقلدوا مناصب، فأفادوا من الهامش الذي تتيحه السلطة للمشتغلين معها، وقدموا للثقافة والمثقفين جزءاً كبيراً، لم يكن ممكناً تحقيقه، دون عون السلطة ونفوذها. عون السلطة ونفوذها ليسا شيئاً هنا، غير الحصول على الدعم المادي، من طريق الإقناع عبر خطط ثقافية مدروسة، ومن هذا النفوذ أيضاً تعطيل البيروقراطية التي كثيراً ما تعوق مثل هذه الخطط. في الوطن العربي ما تزال العلاقة، على رغم تغير المراحل ومرور الزمن، مشوبة بالحذر، بين الترهيب والترغيب. والطرفان غير بعيداً من الشك. هنا شهادان من شاعرة وكاتبة وناقد فيها الكثير من التأمل لهذه العلاقة، ومستوياتها. محمد العباس: مسكونة بروح الإملاء ما زالت وستظل بالنسبة لطراز من المثقفين المهجوسين بإنتاج خطابات التغيير والتنوير، وتعزيز القيم الحقوقية القائمة على استقلالية الوظيفة والأداة، وهي حقيقة يؤكدها علم اجتماع الثقافة التي تموضع المثقفين على حافتي تفكيك السلطة أو الارتهان لمتطلباتها، فالمثقف ومنذ أن توضحت صورته بشكل بارز في التاريخ العالمي وهو يعيش داخل علاقة شائكة مع السلطة والتراث والدين إلى آخر متوالية مركبات السلطة، باعتباره هو الآخر سلطة لا يستهان بها في مقابل سلطة تحاول التخفيف من حدة حضوره، لدرجة التنكيل به وتشويهه، وهو كحصيلة طبيعية لتحول تاريخي مهم يعتبر نفسه الوريث الحقيقي لرجل الدين الذي سيطر على القرون الوسطى، كما يؤكد مسؤوليته عن إنتاج الخطابات الدنيوية الوضعية التي تتجاوز المهمة الوظيفية المتمثلة في توليد الأفكار والنصوص الأدبية إلى ادعاء التموضع في قلب المركزية الاجتماعية، وهو الأمر الذي يتصادم مع كل تجليات السلطة التي تتعاطى السياسة باعتبارها فن إدارة المجتمعات، وإن كان هذا لا ينفي انزياح طابور طويل من المثقفين ناحية السلطة بكل تمظهراتها، وإبداء الكثيرين منهم حماسة لافتة لأن يكونوا جزءاً بنيوياً منها. تظل السلطة مسكونة بروح الإملاء، ولا تقبل الشراكة، ولا حتى مجرد طرح برامج موازية لخططها، وإن كنت أميل إلى أن المثقف في مشهدنا مستدمج في روح وضمير ومقدرات المؤسسة بشكل تلقائي، ولا يوجد من يمثل قيمة مضادة إلا بشكل نادر جداً، لا يكاد أن يرى وسط الزحام والتكالب على فتات المؤسسة. وهو أمر تؤكده الوقائع وليس مجرد تصورات، وأي نظرة فاحصة للمشهد ستكشف عن عدد غير يسير من المتسولين المتلبسين بصفة المثقفين، لدرجة أن المؤسسة تبدو أحياناً، وكأنها تجاوزت الطروحات الكسيحة للمثقفين المستأنسين. وكما أن المؤسسة في حاجة ماسة للمثقف، كذلك هي ضرورة وجودية، وشرط للحراك الثقافي، ومن المهم استحداث وتطوير نظام مؤسساتي يكون منذوراً لرعاية الفنون والآداب، باعتباره الإطار الثقافي الكفيل بتشكيل ظواهر الإبداع الجمعي، وترتيب البيت الثقافي بشكل فاعل، ضمن خطة تنموية أوسع تشمل الاقتصاد والمجتمع، ولكن المهم أن تكون داخل هذه العلاقة حال من التكافؤ والاحترام المتبادل، بمعنى أن تنبني على الديموقراطية بما هي روح العمل الثقافي، أما ما يحدث في مشهدنا فهو حال من الاستحواذ المؤسساتي في مقابل خنوع صريح من أغلب المثقفين لمملياتها وضروراتها، بغض النظر عن الأسماء التي استطاعت أن تتفرّد، أو أن تضع بصمتها الخاصة في مجريات الفعل الثقافي، فالمؤسسة كمركب سلطوي لم تسلّم حتى الآن بقيمة المثقف في هذا المفصل التاريخي، ولم تقر بالمكانة التي يحتلها في صياغة الرؤية السياسية والتنمية الاجتماعية، على رغم استدماجها له ضمن مشروع يخدم تطلعاتها، وعلى رغم عناوينها البراقة حول استراتيجيات الصناعات الثقافية، وأهمية التخطيط الثقافي كضرورة تاريخية. أظن أن أزمة تقوم على عدم الثقة بكل أبعادها هي التي تتحكم في العلاقة، ولذلك لن يخلو الأمر من تسلط، كما تشهد بذلك سوابق تاريخية لا يفترض أن تتجاوزها الذاكرة. العلاقة لا تقوم على التذاكي ولا على الاشتراطات المتبادلة إلا بين الفئات الانتهازية، بل على التفاعل وتوسيع هامش الحراك والتأثير، فالمثقف من الوجهة التاريخية والفكرية يمثل الوجه الأبرز للفئات الاجتماعية الإشكالية، ويقوم خطابه على التصدي للقضايا ذاتها التي لا تريد المؤسسة أن يزاحمها فيها أي طرف، الأمر الذي يفسر الكيفية التي يتكون من خلالها طراز من المثقفين المرتبطين بالطبقة السياسية، واستفادة تلك الطبقة من بعض المثقفين وهي في حال صعودها واستئثارها بالمشهد، وهنا لا بد من الاحتكام إلى ما يسميه غرامشي مفهوم الكتلة التاريخية، بما هي التعبير عن الوحدة الديالكتيكية بين البنية التحتية والبنى الفوقية المدعومة بالهيمنة الأيديولوجية داخل لحظة معينة، وهو الأمر الذي يفصح عن حقيقة رهان المؤسسة الدائم على المثقف الطارئ القابل للتوظيف والاستخدام واستبعاد أو حتى استعداء المثقف، الذي يتمتع بالرغبة في التغيير وإشاعة ثقافة التشارك، وتعزيز الديموقراطية بما هي جوهر الفعل الثقافي. وهنا مكمن آخر من مكامن الإشكالية التي تحكم العلاقة، اذ تتسع الفجوة ويصعب ردمها، خصوصاً مع وجود مثقف هو بمثابة بوق تعبوي للمؤسسة التي أنتجته للحد من أثر المثقفين الشاردين عنها، الأمر الذي يفسر الصورة البائسة لواقعنا وسمعتنا الثقافية في الخارج، حيث الرهان على ما يشبه المثقف. والتأزم بالمعنى الاختلافي لا التصارعي أظنه ضرورة في هذا الصدد، فصيرورة الفعل الثقافي تحتم حالاً من الاختلاف الدائم بين مختلف الأطراف، لتوليد أكبر قدر ممكن من التنوع والتعدد، وهو أمر حاصل بالفعل في بعض المجتمعات الغربية التي شهدت اقتراباً حد التماهي بين المثقف والمؤسسة نتيجة لاقتراب الثقافي من السياسي، لدرجة ظهور زعامات سياسية تتمسح ببريق الفعل الثقافي ونجومه الطليعيين والسوقيين أيضاً الذين أنتجتهم ثقافة العولمة وما بعد الحداثة. أما العالم الثالث الذي ننتمي إليه بامتياز أو إلى ما قبله، فالمثقف ما زال تحت وطأة الهويات، وهو شرط ثقافي اجتماعي يمثل ركيزة من ركائز الاستراتيجية الثقافية لأي بلد، ولا يمكن للسياسي أن يفرض رؤيته على المثقف في هذا الشأن، أو قهر أي مركب من مركبات الهوية تحت دعاوى الرؤية الواحدية، أو هذا ما ينبغي أن تراعيه المؤسسة عند النظر إلى طبيعة العلاقة بين الإنتاج الفكري كما يتمثل في النصوص الأدبية والفنون الجميلة والمعارف في مقابل الواقع الاجتماعي. وفي المقابل يفترض أن يخفف المثقف من ادعاء المواطنة الكونية، والالتفات إلى ما يعزز الهوية المحلية، ليس من منطلق إعلاء نعرة الخصوصية، ولكن بمعنى القراءة الفاحصة للواقع والتاريخ الاجتماعي برؤية نقدية على درجة من الجرأة والتجرد. ووفق هذه الروح النقدية يمكن صياغة واقع ثقافي قوامه ديموقراطية الوجود الإنساني المعزّز بالكلمة. أظن أن تأمل المشهد الثقافي العالمي يفيد في هذا الصدد فالمثقف الغربي بما هو نتاج الثقافة المطلبية والحقوقية يختلف عن مثقفينا الذين هم في معظمهم نتاج التماس الشكلي بمتوالية الغرب والحداثة، بل ان بعضهم ثمرة حقيقية للأثر الاستعماري بمعناه الواسع وليس نتاج مقاومته، الأمر الذي يحتّم صياغة رؤية يشترك فيها المثقف والمؤسسة معاً لإعادة التفكير في المنطلقات ضمن مشروع، أي تجذير الفعل الثقافي. فوزية أبو خالد: فن الممكن لابد من شجاعة الاعتراف من أن علاقة المثقف المستقل، على وجه الخصوص، بالسلطة عبر التاريخ الاجتماعي القديم والحديث هي علاقة إشكالية بطبعها على رغم مشيئات هذا أو ذاك من أطرافها، أو ما يجري من محاولة «تطبيعها خاصة إذا جاء ذلك كما يحدث في المجتمعات العربية اليوم «على حساب سِؤال الحرية». إن محاولة حل هذه العلاقة الإشكالية بالاعتماد على حسن النوايا تارة وبالركون إلى التمني تارة أخرى، هي محاولة بالضرورة فاشلة أو على الأقل مشكوك في جدواها وبالذات إذا أتت بدوافع وآليات لا تريد من «تحسين» هذه العلاقة إن صح التعبير إلا التستر على الفجوة بين السلطة والمثقف وليس مواجهة أسبابها. والحقيقة وهي حقيقة نسبية وقابلة للتعدد بل والنقض بالمستجدات إن الطبيعة الإشكالية بين السلطة وبين المثقف أو بين السياسة وبين الثقافة لا يرجع لرغبات عدائية لدى أي من الطرفين بقدر ما يرجع لنوع العلاقة الجدلية بين المستتب وبين المتغير في معادلة التحولات الاجتماعية والفكرية للمجتمعات. أي العلاقة بين «فن الممكن» كما يقال وبين «تحدي المستحيل. وهو التحدي الأزلي بين الواقع وبين الحلم أو بين المسلمات الاجتماعية وبين الهاجس الإبداعي. وفي رأيي أن تلك العلاقة الإشكالية بين السلطة وبين المثقف هي علاقة طبيعية بشرط حضاري وقانوني وهو ألا تتحول لا سمح الله من علاقة جدل إيجابي إلى علاقة صراع إقصاِئي أو تصفوي. وبناِء عليه لك أن تسجلي على لساني قول «ان توتر العلاقة بين السلطة وبين المثقف هي ظاهرة صحية فالقلق الحقيقي لأي مجتمع على مستوى سياسي وثقافي معاً هو أن تجري مصالحة تدجينية بينهما». ولا يسعني هنا إلا أن أستعير وبالخط العريض ما قاله الشاعر علي الدميني في احدى شهاداته الإبداعية «لست وصياً على أحد». واسمحي لي في السِؤال أن أفتي بقول «لا أدري» فموضوع عمل المثقف الحر المستقل في مؤسسات ثقافية رسمية أعقد وأشد تركيباً من إصدار أحكام قاطعة في المطلق. وفي غياب البدائل يصبح الموضوع أصعب من مجرد تسجيل المواقف بالقبول أو الرفض. وفي الغالب وإن كنت لا أعمم فإنه إذا كان يقال عادة ان للسلطة نخبتها المساندة فإنها وفي لحظات الأزمات تحديداً قد تجد نفسها في حاجة لتطعيم تلك التشكيلة بمسحة من ثقافة المعارضة وهذا قد يخلق أحياناً هامشاً قد يتيح مساحة قد تكون حقيقية أو متوهمة للعب إلا إنها لعبة لا تخلو من نشوة المغامرة أو فواجع المخاطرة ودون الدخول في تفاصيل تحتاج إلى مساحة كتب وليس رقعة في صحيفة فإن المأمول ليس صياغة واقع ثقافي ليحل التأزم بل صياغة خطاب وواقع سياسي يتسع لتعددية الثقافي وتنوعه ويستضيء بإبداعيته أو على الأقل يسمح بالتحاور معها.