مكة أون لاين - السعودية يُروَى عن المنصور العباسي أنه قال عمن يدخل عليه من المنتسبين للعلم الديني: (كلُّكُمْ يمشِي رُوَيدْ...كلُّكُمْ يطلُبُ صَيدْ...غيرَ عمروِ بنِ عُبَيدْ)، هذا (الصيد) الذي أشار إليه المنصور يشمل قائمة عريضة من المكاسب ك(المال)، و(الجاه)، و(كثرة الأتباع)، و(التصدر في الناس)، و(الحظوة عند السلطة)، والثمن المبذول للحصول على هذا (الصيد) هو الدين؛ أي نحن أمام عملية تبادل تجاري تام الأركان. وإذا كانت ظاهرة التقرب للسلطة بالدين معروفة، وثمة نصوص من التراث تحذر من الدخول على السلاطين؛ فإن ظاهرة التقرب من العامة والجمهور بواسطة الدين من المسكوت عنه، وثمة طائفتان من الطوائف المنتسبة للعلم الشرعي تمارس تلك الوظيفة؛ وهما طائفتا القُصَّاص في التراث الإسلامي، وطائفةُ مَنْ يُسمَّون (الدعاة) في هذا العصر؛ فقد كان القُصَّاص يمارسون الوعظ والقَصَّ في المساجد، والأسواق، ومجامع الناس؛ لجلب أكبر عدد من (المشاهدين)، وكانت المنافسة على أشدها بين القُصَّاص للفوز بكعكة الجمهور؛ إذ وراءَ ذلك الفوزُ بما يجود به الجمهور من مالٍ، والفوز بكثرة الأتباع، وتعزيز الجاه والحظوة في المجتمع، ولهذا كانوا يختلقون الأحاديث الطويلة العجيبة، والقصص المكذوبة لترغيب العامة بالحضور. قال ابن قتيبة يصف القُصَّاص في عصره (القرن الثالث الهجري): "فإنهم يُميلون وجوهَ العوام إليهم، ويَستدِرُّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعودُ عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فِطَر العقول، أو كان رقيقًا يُحزن القلوب، ويَستغزِر العيون، فإذا ذكر الجنة، قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وعَجِيزتها ميلٌ في ميل، ويُبوِّئ الله تعالى وليَّه قصرًا من لؤلؤة بيضاء، فيه سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف قُبة، في كل قبة سبعون ألف فراش، على كل فراش سبعون ألف كذا، فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفًا، وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع، ثم يذكر آدم - عليه السلام - ويصفه، فيقول: كان رأسه يبلغ السحاب، أو السماء ويحاكها، فاعتراه لذلك الصلع، ولما هبط إلى الأرض بكى على الجنة حتى بلغت دموعه البحر، وجرت فيها السفن، ويذكر داود - عليه السلام - فيقول: سجد لله تعالى أربعين ليلةً، وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه، ثم زفر زفرةً هاج لها ذلك النبات، ويذكر عصا موسى - عليه السلام - فيقول: كان نابها كنخلة سحوق، وعينها كالبرق الخاطف". تلك الرغبة المحمومة لدى قصاص الأمس للاستحواذ على الجمهور بالتقرب إليهم بما يرغبون ورثها خلفاؤُهُم في هذا العصر وهم طائفة (الدعاة)؛ فتحول الدين في ممارسة أولئك الدعاة إلى (سلعة) تعرض في سوق الفضائيات لمن يدفع أكثر، ودخل الدعاة في سباق محموم للفوز بأكبر نصيب من (كعكة) السوق الإعلامية، وصارت برامج (الدعوة إلى الله) -كما يسمونها - تخضع لمواصفات خاصة من حيث الإنتاج، والديكور، والإضاءة، والإخراج، وما يصاحب ذلك من تنقل الكاميرا بين زوايا الإستديو، ووسائل جذب الجمهور من إبهار، وإغراب في القصص، وشيء من الإخبات المصطنع أحيانًا، كل ذلك والحديث الذي يطرحه (الداعية) فيما يُصوَّرُ بتلك الطرق إنما هو عن التقوى، أو الزهد، أو التزود للآخرة، أو الإخلاص لله، أو الخشوع في العبادة، ومرتبة الإحسان، وما إلي ذلك من معانٍ دينية سامية، لا يجوز أن تُبتذلَ في سوق النخاسة الإعلامية، فهي نتاج تجارب روحية عميقة، لا يحوزها إلا القلة من العبَّاد المخبتين المنعزلين عن ضوضاء الحياة وصخبها، وأما ما يصنعه أولئك الدعاة فهو لا يعدو أن يكون رحلةً لطلب (الصيد) الذي ذكره المنصور العباسي الذي استفتحت بذكره هذه المقالة.