الاقتصادية - السعودية أعداد القضاة الذين يخرجون من القضاء مختارين، عدد مقلق جدا، قياسا بقلة عددهم، وبملاحظة صعوبة تعويضهم بالكفاءة والخبرة ذاتها، وعفاف النفس واليد، إن الاختيار للقاضي هو دائما من أصعب القرارات، كم هو عسير أن تعثر على القوي الأمين. مما يعتبر كل استقالة هو ثلمة عظيمة في جدار العدل. وحين نحاول فهم الأسباب، نجد أن عددا غير قليل منهم تحولوا إلى مهنة - المحاماة - وهذا دون شك تحول ليس باليسير توطين النفس عليه من قاضٍ. لأن القاضي الذي يُستأذن للدخول عليه، ينتظر هو الإذن للدخول حين يصبح محاميا، وحين كان يقضي مسببا قضاءه وحكمه برأيه واجتهاده، وفي المهنة الجديدة سينتظر هو الحكم الذي لا يدريه، ويرد على الأسباب التي اعتمدها غيره، وحين كان حكمه ورأيه بولاية خاصة تجعله قاطعا للخصومة، وقاطعا بالحكم عليها. يتحول إلى إنسان بلا ولاية، ومحض حامل رأي. هذا التحول يفرضه بقسوة ودون مواربة، العوز والحاجة، وقلة ذات اليد في واحد من الأسباب الظاهرة. فعند الرجوع إلى سلم الرواتب للقضاة، نجد أنه هو الأقل على مستوى دول الخليج، كما أن لائحة شؤون القضاة لا تزال لأسباب غير مفهومة معلقة منذ عام 28 ه. وفي الوقت الذي يتقاضى فيه بعض المهندسين في شركات النفط ما يعادل راتب ستة قضاة في الشهر، الهمز واللمز بالرواتب والأجور، يتجه إلى القضاة بما يعكس الخلل الكبير في المعلومات عند المجتمع. إن مكانة القاضي، في مسكنه، وفي وسيلة تنقله، وفي رفع حاجته عنه، وفي كفايته شؤونه كلها، من علاج وضيافة وسكن وسفر مما ينتهي في نهاية الأمر وفي أوله إلى مكانة الدولة التي يقضي فيها. لأن منزلة القاضي بمنزلة الدولة العامل فيها. ولعلنا في المملكة تأخرنا كثيرا في هذا الجانب، مما وفر البيئة لوقوع هذه الخسارة الهائلة التي بدأت، التي قد لا تنتهي بخروج القضاة من السلك القضائي للعمل الخاص. إن حجم العداوة التي تتراكم مع الأحكام القضائية ليست يسيرة، فكل محكوم عليه، يناصب القاضي العداء، ولو أستيقن من نفسه الجناية، وأستيقن من نفسه البغي وأكل أموال الناس بالباطل. وهذه ضريبة ثقيلة جدا في تبعاتها الاجتماعية التي لا يدفعها إلا قلة من فئات المجتمع يأتي القاضي في أولها. إلا أنه لا ينال بدل طبيعة عمل.. في الوقت الذي تصرف هذا البدل كل الوزارات لبعض التخصصات مثل تخصص الطب الجنائي، والتشريح. وأقسام المختبرات. في وزارة الصحة في واقع الحال يجد كثير من القضاة، وبسبب عفة النفس وتعاليها عن الطلب، حرجا بالغا في المطالبة بالعوض المادي العادل، بما قد لا يتفهم أسبابه البعض.. إلا أن مقتضيات الحياة الاجتماعية، وحجم الضغوط الهائلة المفروضة، وطبيعة المكانة الاجتماعية التي لا يملك أن ينزل عنها، ومنزلته التي تنتسب إلى ظلال تمثيل الدولة التي يقضي فيها. تجعل من قرر الوقوف خلف الأبواب بمهنة المحاماة أهون عليه من خيبة رجاء الراجين فيه ممن حوله، أو الصبر على حاجة لا يستطيع أن يبوح بها، وتمانعه المروءة من نشرها، فيطويها وفي النفس والقلب وحياة من حوله حاجات لا تُقضى ولا تنقضي. ينبغي في تقديري أن يكون النظر في هذا الأمر على وجه السرعة الفائقة، كي لا نخسر أكثر مما خسرنا من القضاة المستقيلين من ذوي الكفاءات العالية، والأمانة الرفيعة لتلك الأسباب التي تنتهي إلى قلة الكرامة الغامرة، والعناية الكريمة، والنعمة الظاهرة، التي يستحقها من دولته بصفته لسان عدلها وضميرها الحي. وأساس الحكم العدل وهؤلاء هم رجاله والقائمون بين الناس بالقسط بصدق النوايا وأطهرها.