العرب القطرية في يوم من أيام شتاء يناير المثلجة قبل أعوام، وفي مكتبه في مقر رئاسة الوزراء في العاصمة التركية أنقرة، وفي مربع بسيط لا يتعدى أمتاراً تكفي لمكتب وكرسيين وطاولة منتصف وجهاز تلفاز شاشته من الحجم الصغير وخزانة كتب وحامل للثياب، التقيته. كان آنذاك مستشاراً لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لشؤون الشرق الأوسط يرافقه في رحلاته إليه، ويقوم بالترجمة المباشرة لأنه طلِق باللغة العربية. أبا عبدالله، الآتي من عائلة مرجعيتها دينية محافظة، خريج جامعة الملك سعود في السعودية، بدايته في جامعة أتاتورك بمدينة سواس معلماً للغة العربية ثم انتقل إلى جامعة غازي في أنقرة وترأس قسمها، كما له عدة إصدارات تتناول العلاقات التركية العربية. رجل حييّ، في زمن صارت شعبة الإيمان هذه مهجورة، وقل مريدوها، متزن في أفكاره وأسلوب طرحها بلا تمييع وتنازل، تحدثنا يومها عن ملفات كثيرة، الأديان، التاريخ، السياسة، المجتمع، الأمة، الدولة العثمانية واليهود، قد يحين وقت نشرها يوماً ما. لكن ما لفت انتباهي منذ ذاك المساء أن هذا الرجل هو قائد الصف الثاني لحزب العدالة والتنمية أو أحد أهم ثلاثة لقيادته للمرحلة الحالية، وذلك توافقاً مع نهج سياسة الحزب في الإقبال على الشرق، والتي بدأها أردوغان، وبالطبع هو ليس قرار رئيس الوزراء الشخصي بل سياسة عامة مدروسة للحزب الذي يقود الحكومة بالتقارب التركي-العربي. الأستاذ الدكتور أمر الله أيشلر كان على رأس من تصدروا من الناطقين بالعربية في حزبه والحكومة والبرلمان للإعلام العربي والغربي الناطق بالعربية، وأخص الخليجي الذي انتهج استفزاز الحكومة التركية بكل ما أوتي من قوة عندما نشبت أحداث «حديقة جيزي» أو كما يسميها الإعلام «مظاهرات تقسيم». إعلام تباكى على علمانية الدولة أكثر من علمانييها أنفسهم، شاهدتُه في كل برنامج وقناة كيف كان متماسكاً في دفاعه عن مؤسسات بلده الديمقراطي، وسيادته، واستقلاله في القرار. وعارضاً إنجازات حكومته بفخر واعتزاز، مبتعداً عن الخلاف اللامنطقي، ومحاولات اجترار ابتزاز الإعلام السياسي الذي انتهجه مذيعو قنوات كل لها أجندتها الخاصة، لم يكن يخضع لمسار الحوار بل يُخضعه لإدارته طبقاً لما يريد أن يرسل عبره من معلومات، استخدم الإعلام بهدوء محترف ولم يسمح له باستخدامه وكل ذلك بابتسامته الواثقة المعهودة. كما أنه ممن اهتم بملف ما أسماه ب «أسطورة إبادة الأرمن في الدولة العثمانية» وفتح التاريخ على مصراعيه ليبين في وسائل الإعلام العربية حقيقة ما حدث، وجاء موازياً لزخم التوضيح الإعلامي للقضية «الأرمينية–التركية» تحرك تركيا دبلوماسياً للعمل على ترميم القضايا العالقة في هذا الشأن عبر وزير خارجيتها داوود أوغلو. هؤلاء يعملون بروح الفريق في سبيل أمتهم ورفعة وطنهم؛ لذلك تُشَن عليهم الحروب من كل جانب ولذلك أيضاً سيُدحر عدوهم، إنها الحاضنة الشعبية التي تحميهم من تقلبات مصالح السياسة الدولية وتأخذ عنهم بصدر إخلاصها السهام المسمومة، فلا ينكر فضلهم في إدارة تركيا ودفعها للصف الأول سياسياً واقتصادياً وتنموياً واجتماعياً إلا جاحد. هناك من يعملون في السياسة فتلوثهم وآخرون يعملون في السياسة فيطهرونها وأحسب د.إيشلر من النوع الثاني. الخلط بين العمل السياسي الذي يتطلب التعامل مع شياطين الإنس والالتزام بأخلاق الدين والقيم والمبادئ الإنسانية العامة أمر ليس من السهل على من خاض فيها، وبالطبع هي رحلة مستمرة من مكافحة شغب النفس الأمارة بالسوء وزلل الذات في شهوة السلطة والمكاسب والنفعية، ولكننا نظن بإخواننا في العدالة والتنمية خيراً بشهادة الواقع لا التمني. خرجت بعد لقائي به بهدايا قيمة آخرها كتاب عن «فلسطين في الوثائق العثمانية» وأولها استقبال كريم في المطار، ووسطها وجبة مسائية من القرع المُحلّى والمكسرات عالية السعرات الحرارية يتناولها الأتراك في منتصف يوم العمل لشحن طاقة أجسادهم لعمل متصل من البكور بعد صلاة الفجر وحتى ساعات متأخرة من الليل، وأهم هدية هو الوقت الذي منحني إياه. د.أمر الله إيشلر فاز في الانتخابات الأخيرة نائباً عن ولاية أنقرةمسقط رأسه، واليوم هو نائب لرئيس وزراء تركيا ممثلاً عن حزب العدالة والتنمية الحاكم المتهم كيداً بالفساد المالي في محاولة للنيل من أمانته في أحداث 17 ديسمبر الماضي. بالفعل بلغ بهم الفساد والتعدي على المال العام، إهداء «وجبات قرْع ومكسرات» وكتاب وثائقي عن تاريخ دولتهم مع أهم قضية عربية تآمر عليها العرب، بينما فقد التركي السلطان عبدالحميد الثاني آخر سلاطين الدولة العثمانية عرشه في سبيلها، وسقطت بسبب موقفه منها آخر خلافة إسلامية! ليت كل الحكومات بفسادكم أيها الصحب! [email protected] http://twitter.com/kholoudalkhames