الشرق الأوسط - السعودية المعركة الأهم لا تحدث اليوم في الساحات المفتوحة بين الجيوش المتقاتلة، ولا في الأسواق المفتوحة بين المنتجات المتنافسة، ولكن المعركة الأهم هي ما يحدث الآن على الشاشات التلفزيونية والهاتفية والحاسوبية اللوحية لتملك العقول والسيطرة على الأفكار. إنها معركة الإعلام.. إنها المعركة الأعظم. يخطئ من يعتقد أن هناك إعلاما «محايدا».. الإعلام يديره أفراد لهم مواقف وميول وأهواء مهما أظهروا الاعتدال والموضوعية والمهنية، هذه حقيقة يجب أخذها بعين الاعتبار حينما يجري تقييم الأداء الإعلامي، ولكن في معظم دول عالمنا العربي أكاد أصاب بضحك هستيري وأنا أقرأ الدفاع المستميت عن «حرية» الصحافة، وكيف أنها السلطة «الرابعة» للأمة، وأنها «ضمير» الشعب، وغير ذلك من العبارات «الكبيرة»، التي تعطي للوسائل الإعلامية أكبر بكثير من أحجامها. وبالتالي ترفع بذلك سقف التوقعات لما يمكن أن تقوم به الوسائل الإعلامية من مهام «عظيمة وجسيمة»، وطبعا سرعان ما يُصاب الجميع بخيبة أمل كبرى؛ كيف يمكن أن يجري الاعتقاد بأي قدر من الجدية والمنطق بأن الإعلام في معظم دولنا هو في حقيقته «سلطة رابعة»، وسط غياب تام للسلطة الثانية التشريعية والثالثة القضائية؟! وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل بالنظر إلى أسلوب إدارة الخبر وتقرير ما هو الخبر المهم والأهم وما هي أنصاف الأخبار؛ فهناك حشو متواصل لما يمكن أن يُسمّى أنصاف الأخبار أو حتى أشباه الأخبار، لأجل ملء الفراغ وملء العقول على حساب تغييب الأخبار الأهم، التي لا يمكن تغطيتها بشكل صريح، وطبعا الانخفاض المتزايد والمتسارع في مستوى الثقافة وفي مستوى التعليم في العالم العربي يجعل تمرير مثل هذه النوعية من الأخبار مسألة سهلة، مقارنة مع البلاد التي سبقتنا في التعلم والتعليم والتثقيف. ولو لاحظنا أسلوب تغطية الخبر بالصورة النمطية، خلال زيارة مسؤول رفيع إلى دولة بالمنطقة، ومقابلته لأهم التنفيذيين فيها دائما ما تتكرر الديباجة نفسها. كما يجري تجنيد مدققي اللغة لإبراز عضلاتهم في صياغة النص المقروء أو المذاع أو المشاهد، فيجري اللعب على المفردات، ويحصل الجدل بين لفظي «شهيد» و«قتيل»، ومن جهة أخرى تحويل «القتل» إلى «عنف»، وتغييب «أراضٍ محتلة» لصالح «أراضٍ متنازع عليها»، وأعتقد أن أهم سبب لانتشار أشباه الأخبار في بعض الصحف يتعلق بضرورة زيادة حجم ما يراد إخفاؤه والتعتيم عليه إعلاميا، وذلك بسبب بعد السياسات العالمية والسياسات الاقتصادية عن أبسط القواعد الأخلاقية، وتفشي الظلم ومأسسة الفساد وتكريس العنصرية ومباركة التطرف الديني، فبالتالي لا بد أن يزيد حجم ما يجب إخفاؤه وتكريس ما يجب إظهاره. وتصبح المجتمعات حول العالم مسيَّرة ويسهل توجيهها، وبالتالي ما الذي يمكن أن يحدث للمجتمعات «الديمقراطية»، مع الاختفاء التدريجي، ولكن الحقيقي، للأخبار الحقيقية، وحلول أنصاف وأشباه الأخبار مكانها؟ هذا السؤال يؤرق كثيرا من الحقوقيين في الغرب، لأنهم باتوا يعتقدون أن الذي يدلي بصوته ويكوِّن رأيا يقرر بناء عليه قراره الانتخابي والمصيري يعتمد على أشباه الأخبار تلك، لأن الحقيقة بقيت محجوبة مغيبة. المعركة الإعلامية محتدمة على عقول وقناعات ومبادئ الناس، وتُستخدم فيها جميع الأسلحة التي تصنع التأثير، ولا يجري استثناء الدين ولا الرياضة ولا الفن ولا الاقتصاد ولا الفكر ولا الثقافة ولا السياسة لإحداث النتائج المأمولة. إن من البيان لسحرا، وما يحدث اليوم في الساحة الإعلامية سحر من نوع خطير، لأن وسيلته الخيال، وما أدراك ما الخيال. كان هناك ما يُطلق عليه الخيال العلمي، وفي الإعلام العربي استُحدثت ظاهرة الخيال العلمي.. علمك!