أيها البائسون التعساء والافتتاحية الندائية هذه جاءت على لسان العبقرى نجيب الريحانى فى فيلم «سلامة فى خير» حين طلب منه بهويته المنتحلة كالأمير «كندهار» مخاطبة الحضور الأرستقراطى فى حفل بهيج ودس فى يديه للإلقاء بدلا من النص المكتوب المعد سلفا للحفل نصا آخر كان يفترض أن يلقيه على أيتام ومشردين ومساكين فى ملجأ. «الفراش الأول»، وظيفة سلامة الفعلية، يخاطب بهويته المنتحلة كأمير «علية القوم» مشوها هويتهم إلى أرباب ملاجئ لا حول لهم ولا قوة. ولدت الهويات الزائفة، الفراش الأمير المخاطب (بكسر الطاء) والأرستقراطيون المشردون المخاطبون (بفتح الطاء)، فى فيلم «سلامة فى خير» مشهدا كوميديا رائعا وأنتج اصطدامها مضمونا إنسانيا ساخرا. أما فى السياسة، فإن زيف الهويات يغتال الحقيقة ويشوه الوعى العام ويباعد بمأساوية بين المواطن وبين الإدراك الموضوعى لأزمات الدولة والمجتمع وبينهما وبين مواجهة الأزمات بفاعلية وطلب التقدم والرخاء والحرية. وفى مصر، تحمل لنا اللحظة السياسية الراهنة الكثير من نماذج الهويات الزائفة التى تثبت عودتها إلى الواجهة ومساحات النفوذ الواسعة المتاحة لها، من بين أمور أخرى، انتكاس مسار التحول الديمقراطى الذى بدأ مع ثورة يناير 2011. هكذا تتحدث النخب الحكومية والحزبية والإعلامية والاقتصادية والمالية المؤيدة لترتيبات ما بعد 3 يوليو 2013 بهوية زائفة عن الدستور العصرى وسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات وتداول السلطة، بينما سياقات الحقيقة تخبر عن بنيان دستورى غير ديمقراطى وسيادة قانون لا تحترم وانتهاكات للحقوق وقيود على الحريات لا تتراجع ولا ترتب مساءلة ومحاسبة وإصلاح وهيمنة للمكون العسكرى الأمنى على الدولة والسياسة تعصف فعليا بفرص تداول السلطة وعسكرة للمخيلة الجماعية تقضى على دور المدنيين. هكذا تأتى الوفود الرسمية من بلدان عربية لا ديمقراطية بها ولا حريات سياسية ولا انتخابات دورية ولا توازن ورقابة بين السلطات لتتباحث مع النخب الحكومية والحزبية المصرية بشأن روابط الأخوة والعلاقات الاقتصادية والتجارية وكذلك بشأن «إجراءات التحول الديمقراطى»، فينتحل الطرفان هوية ديمقراطية ليست لهما ويشوهان فى الوعى العام واقع استمرار هيمنة (أو عودة هيمنة) السلطويات العربية على الدول والمجتمعات والسياسة والمواطن. هكذا تتحدث بعض الحكومات الغربية عن متابعتها «لمسار التحول الديمقراطى فى مصر» وارتياحها «للخطوات التى تقطع» ومناشدتها المزيد من «الالتزام بالحريات»، فتدعى لذاتها بذلك زيفا هوية «دعم الديمقراطية فى الخارج» وتغتال حقيقة ركضها الدائم وراء مصالحها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية وتضحيتها بالحريات حين تتعارض مع المصالح هذه وتمكن بالتبعية النخب الحكومية والحزبية المصرية من تنويع إضافى زائف لمستويات ومقولات خطابها بشأن إجراءات التحول الديمقراطى. وهكذا يرفع الإخوان مع حلفائهم فى اليمين الدينى اليوم لواء مفاهيم الشرعية الديمقراطية ورفض تدخل الجيش فى السياسة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرية وعلنية العمل العام والتعبير السلمى عن الرأى، ولو كان الإخوان التزموا هذه المفاهيم كمكونات رئيسية لهويتهم السياسية بين 11 فبراير 2011 و30 يونيو 2013 لنجحوا فى بناء توافق وطنى حول إجراءات ديمقراطية تدمج ولا تقصى ولمكنوا الحزب العلنى (الحرية والعدالة) وليس الجماعة السرية من تصدر عملهم السياسى ولابتعدوا عن التورط فى صياغة تحالفات مع المكون العسكرى الأمنى تتناقض مع شروط البنيان الديمقراطى والعدالة الانتقالية ولامتنعوا عن محاولة السيطرة الانفرادية على الدولة ومؤسساتها عوضا عن الإصلاح والشراكة ولقبلوا التعددية وصانوا حقوق الإنسان والحريات، ولو كان الإخوان التزموا بهذه المفاهيم كمكونات لهوية حقيقية وليست زائفة قبل 30 يونيو 2013 لوجدوا اليوم على الأرجح أصواتا أكثر ترفض انتكاس التحول الديمقراطى وعودة هيمنة المكون العسكرى الأمنى وانتهاكات حقوق الإنسان التى تطولهم والانتقاص المدان من حرياتهم بل نزع إنسانيتهم الذى تحول إلى واقع مع فض اعتصاماتهم بالقوة وفى ظل الترويج لفاشية الإقصاء وذيوع فولكلور التشفى الشعبى، دون أن ترتب هذه العلاقة الارتباطية المفترضة إعفاء المساومين على الديمقراطية ومبررى الانتهاكات والمتورطين فى الترويج لهيمنة المكون العسكرى الأمنى وتشويه الوعى والصامتين طمعا فى قبول شعبى والمتحايلين أملا فى الحفاظ على مكاسب سياسية من المسئولية الأخلاقية أو تسقط واجب الدفاع المبدئى عن حقوق الإنسان والحريات. أسوأ مكان فى الجحيم سيكون محجوز الهؤلاء الذين يبقون على الحياد فى أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة والاقتباس هذا ينسبه فى السياق المصرى الراهن بعض الكتاب والسياسيين والشخصيات العامة إلى شاعر وفيلسوف القرون الوسطى الإيطالى دانتى، ويدعون أنه يرد فى قصيدته «الكوميديا الإلهية»، ويستدعونه للتدليل من جهة على «الضرورة الأخلاقية» لتأييد ترتيبات ما بعد 3 يوليو 2013 و«الحرب على الإرهاب» و«مواجهة الدولة للعنف»، ومن جهة أخرى لإثبات «لا أخلاقية» من يدفعهم رفضهم للإرهاب وللعنف عامة إلى نقد العنف الرسمى كما ينقدون العنف الأهلى وإلى المطالبة بالتزام سيادة القانون والحقوق والحريات حتى فى «أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة» وإلى الابتعاد عن التعويل الأحادى على الحلول الأمنية والبحث عن بناء التوافق والعيش المشترك والمخارج السياسية. والتعيس فى الأمر، بداية، هو أن تنسيب هذا الاقتباس لدانتى والزعم أنه يرد فى الكوميديا الإلهية يمثلان معا تورطا دون تحر للدقة فى خطأ شائع تسبب به الرئيس الأمريكى الأسبق جون كنيدى حين أشار فى خطاب ألقاه فى 1963 فى عاصمة ألمانيا الغربية السابقة (بون) وتناول به الصراع بين الغرب الحر والكتلة السوفييتية الشيوعية إلى أن «دانتى قال يوما إن أكثر الأماكن سخونة فى الجحيم محجوزة لهؤلاء الذين يبقون على الحياد فى أوقات الأزمات الأخلاقية»، وبإشارته هذه وبقليل من التحوير اللغوى تحولت هذه الكلمات وإلى اليوم إلى عبارة ذائعة الصيت عالميا ونسبت زيفا كاقتباس إلى دانتى و«كوميديته» على الرغم من عدم ورودها بها. وللدقة، الوارد بشأن المترددين وغير القادرين على اتخاذ الواضح من المواقف، وفى موقع وحيد فى الكوميديا الإلهية القصيدة المكتوبة كرحلة إلى الجحيم وكحوار بين دانتى ومعلمه أو سيده بالمعنى الدينى هو كالتالى (ترجمتى الشخصية من النص الألمانى للكوميديا الإلهية إلى العربية): «وقلت، أنا الذى التف الرعب حول رأسه: سيدى ما هذا الذى أسمعه الآن؟ من هؤلاء الذين يهزمهم الألم؟ وقال هو لى: هذا المسار البائس تأخذه الأرواح الحزينة لهؤلاء الذين أمضوا حياتهم دون ذم أو مدح (...) هم الآن فى معية أولئك الذين لم يعصوا الإله ولم يطيعوه، بل تنحوا جانبا لذواتهم (...) تطردهم السماوات لكى لا تصبح أقل عدلا؛ ولا يستقبلهم الجحيم؛ بل ولا يريدهم الشر لأنه لن يحصل منهم على المجد». وفقا لقراءتى المتواضعة، ترتبط المضامين التى يعبر عنها دانتى فى الموقع المذكور أعلاه فى الكوميديا الإلهية، بالثلاثية الدينية طاعة الإله الشرك والمعصية حالة اللامبالاة التى تدفع بعض البشر إلى تجاهل التدبر فى حكمة الخلق ومغزاها وتختزل حياتهم إلى ركض أنانى ومسعور وراء المنافع الذاتية. بعبارة أخرى، تنعدم الصلة بين أفكار وعبارات دانتى فى قصيدته ذات البنيان المعرفى الدينى (المسيحى)، والتى أنتجت فى سياق تاريخى مضطرب (القرن الرابع عشر) بهدف فرض سيطرة المقدس والدينى على البشرى والدنيوى، وبين مسألة الحياد فى أوقات المعارك أو الأزمات الأخلاقية العظيمة التى أقحمها فى ستينيات القرن الماضى رئيس أمريكى ويستسيغ استدعاءها منذ حينها زيفا ودون تحر للدقة بشأن فهم السياقات المعرفية والتاريخية الكثير من الأصوات والأقلام بغية الانتصار لمواقف سياسية بعينها تتفاوت من الانحياز إلى الغرب الحر فى مواجهة الشيوعية (كنيدى) إلى تأييد الدول فى «حروبها ضد الإرهاب» (الخطاب الرسمى المصرى اليوم ومقولات مؤيديه). بعيدا عن اقتباس دانتى المزعوم، لا يمكن إنكار حقيقة أن الدول والمجتمعات والإنسانية جمعاء تدخل بانتظام فى معارك أخلاقية عظيمة وكون المبادئ والقيم التى نؤمن بها كبشر تختبر فى هذه المعارك كما يختبر اتساقنا معها كقواعد مجردة. وبالإسقاط على الواقع المصرى واللحظة السياسية الراهنة، يصبح التمسك بالعدل والمساواة والحرية والسلمية والعيش المشترك والتعددية وقبول الآخر والدفاع عنها جميعاً برفض دولة الظلم التى لا تحترم القانون الترجمة المجردة للعدل وللمساواة وبرفض انتهاكات الحقوق والحريات وبصون الكرامة الإنسانية والسلم الأهلى فى مواجهة عنف المجموعات أو العنف الرسمى الذى يتغول مع الممارسات الأمنية وبالمطالبة ببناء التوافق والعيش المشترك دون تمييز أو اضطهاد أو إقصاء بمثابة مكونات رئيسية للموقف الأخلاقى غير المحايد ولهوية سياسية غير زائفة، تباعد بيننا وبين بؤس وتعاسة أصحاب الهويات المسيطرة اليوم فى مصر . «لن يدمر العالم بسبب أولئك الذين يرتكبون الشر، بل بسبب هؤلاء الذين يشاهدونهم دون أن يفعلوا شيئا».. ألبرت أينشتاين.