بدون أن يكون مكان لك ويخصك .. فأنت ضائع. حقيقة! لا يمكنك أن تسير متوازناً واثقاً بدون أن يكون لك سقف وانتماء. بيت ووطن. بيت حيث تنتمي، حيث تعود آخر النهار، حيث يستقر القلب، وتحيطك الطمأنينة والحماية، حيث تشعر أنك بمأمن، أنك محبوب، وأنك موثوق ومعتبر. إنه المكان والانتماء الذي تشعر أنه أنت بعاديتك، تأكل كما تشاء، تجلس كما تشاء، تتصرف بلا ارتباك، مقرٌّ للراحة المعنوية والمادية والاعتبارية .. مكانٌ تضع رأسَك على أكتافه، وتنام. الشباب السعودي يحتاج إلى سكن، والسكن ما زال مستعصياً، ليس لأنه مستعص بطبيعته، ولكنه مستعص لأنه نُفخ بطبيعته، فصار حلماً لا يُطال، لا يمكن لشابٍ سعودي في أول حياته أن يقتني بيتاً مهما صغرت مساحة البيت، ومهما كبر راتبه أو دخله .. دوران غريب بحلقة مفرغة. لماذا؟ لأن لا شيء واضحاً. عدم الوضوح هو كل المشكلة. أعلن عاهل البلاد عن نصف مليون وحدة سكانية، ستحِل لو تمّت أكثر مشكلات السكن، بالذات لقطاع الشباب، وكان الإعلانُ قاطعاً وعن رغبةٍ وحدبٍ من الأب الكبير لأبنائه الكثيرين. لذا فرح الشبابُ وتباشروا. على أن لتأخير تنفيذ الرغبة الملكية تبعات اقتصادية، واجتماعية، ونفسانية، فلم تذر ملامح لآليته وتصوره ومدته وميزانيته. ما الذي حصل خلال هذه الفترة؟ الذي حصل لم يكن ساكناً، بل فوه كبير يأكل من لحمنا الحي.. الشباب ينتظرون وبالتالي لم يعودوا يفكرون في شراء وحداتٍ لهم سواء أكانت بيوتا صغيرة، أم شققاً في عمارات، والسبب أنهم حاولوا الادخارَ لما يرونه أولوية أكثر، ما دام السكن سيتاح ميسراً حكومياً حسبما رغب الملكُ وتمناه الناس .. فتبخرت المبالغ التي من الممكن أن تكون نواة دفع أو قرضاً سكنياً. وفي هذا الوقت لم يقف العقارُ ساكناً، فما زال في ارتفاع ليس لآلية الطلب وهو ما يناقض المسلَّمة البدهية في ميكانيكية السوق، بل لشحّ مفتعل بالأراضي، ولطمع في هوامش ربحية خرافية اعتادها قطاع العقار، ولن يقدم تنازلاتٍ لأرباح أقل .. خصوصا والحالة مشوّشة. عقاريون يشتكون من أنهم بنوا وحداتٍ كثيرة سواء البيوتات المتلاصقة أم شقق العمائر، وبقي الطلب في تنازل، ولم يتغير السعر، هذا إن لم يزد، مع مضاربات مكانية لتحقيق حتمية الطلب حسب المواقع. وهذا يقود لحالتين: أ- تعطل أموال كبيرة جداً، فتصبح ثقيلة لزجة لا تجري سائغة في شريان الإنتاج العام للأمة، فتفقد قسماً من لياقتها الفاعلة. هذا الغموض وعتامة الشفافية أوجدا تخوّفاتٍ وإرباكاتٍ لا نعرف مدى واقعيتها، مثل مَن يتخوف من هجوم وحش على كوخ .. فلا الوحش يهجم، ولا من في الكوخ يخرجون لمتابعة حياتهم .. الخوف المصطنع من الوهم والخيال والتوقع الذي بلا توقع .. فتتيبَّس تروس الاقتصاد بهذا القطاع، ويؤثر في باقي القطاعات الاقتصادية تتابعاً متسلسلاً. الشباب متأزمون نفسياً لأن لا سكن يخصّهم، وهذا السكن كما أسلفت، هو الانتماء الأصغر الذي يجعل الانتماءَ الأكبر محقّقاً، شابٌ بلا سكن لا تطلب منه طمأنينة ولاءٍ كاملة، حتى لو ضربناهم لن نستطيع .. وهم لن يستطيعوا، حالةٌ تتجنبها الأمم التي تريد أن تتحرّك بكل عناصرها للأمام .. لا حركة بلا شباب مُقبل ومتحمّس. هنا الخسارة لا يمكن أن تُعَد بوحدات النقد. القطاع الاقتصادي في ظل مشروع يريده الملكُ لشعبه، وفي الانتظار لتحقيق المشروع الطموح الكبير، سيوجهون، أو وجّهوا، أموالاً استثمارية إما في التخزين، أو تعزيز نشاط البناء والتشييد والمقاولات أو تجارة موادها، وربما توظيفات مالية لمصانع ومبان جديدة ترافق هذا المشروع الذي سيشغّل كل صامولةٍ في أصغر دكان مواد بناء. وتتصاعد الحالة النفسية لأهم قطاع حركي وحيوي، فلا يدري التجارُ أيحبسون الأموال، فترتفع الأشياء، وستنعكس الدورات الانتعاشية البنكية إلا بتضخم الودائع، أم ينفقون لشيء لا يرون بمغامرات غير محسوبة، فيكون الاستثمارُ محرقة نفسية حقيقية؟! ومشكلة أخرى أكثر إعاقة .. مَن نلوم؟ وزارة الإسكان يبدو أنها مهما حرصت إلا أنها، وإن لم تعترف صراحة، مغلوبة على أمرها مثلنا كلنا بغمغمةٍ تمنع رؤيةً صافية .. حتى لو أحضَرَتْ أقوى المناظير. مشكلة أننا لا نعرف مَن نلوم .. أو نتوقف عند حد لا يخترقه اللوم. إنه وعد من المسؤول الأول، ويجب أن يتحقّق. نقطة آخر السطر. وأتمنى من وزير الإسكان تفعيل لقاءاتٍ مع الناس في أماكن من الممكن أن يشعر الوزيرُ أنه يستطيع أن يبين لهم، وهم يستطيعون أن يفعلوا له شيئاً. فالناسُ، وهو حقٌ يكفله النظامُ الأساسي لدولتنا .. أيضاً لهم كلمة.