تقول الحكمة: «اللي ما عنده كبير.. يدور له كبير»، وعلى رغم بساطة المثل ودلالاته الاجتماعية المحدودة، إلا أنه يؤكد لنا في إشارات واضحة على أن العالم مهما كان صغيراً أو كبيراً لا يسير إلا بالتحالف والتكتل. وإن مقاومة التحديات بالوقوف أمام العواصف بسيطة كانت أو صعبة مهلكات، فالعقل والحكمة يقولان إن معالجة الأزمات تتم فقط بالروية والمشورة والتحالفات. وعند قراءة تداعيات أزمة الخروج الأميركي من منطقة الشرق الأوسط، ليس على السعودية فقط بل على الإقليم برمته، نجد أنه لازماً على كل الدول التي كانت في تحالف مع القوة الأميركية العظمى الأولى والوحيدة في العالم، البحث عن ما يمكن أن يطلق عليه بالكبير الآخر، أو لنقل في شكل أدق حليفاً استراتيجياً آخر. قد لا يسد الفراغ كله، لكنه يضمن في هذا العالم المتصادم الإسهام في حماية المصالح المشتركة، ويقف معك على خط واحد في مقاومة الأزمات. السعودية في ما يبدو اختارت من خلال تحركاتها ورسائلها الديبلوماسية خلال الأشهر الماضية أن تمضي في طريقها نحو المستقبل، وألا تقف على أطلال التحالف السعودي الأميركي السابق الذي صمد لأكثر من 60 عاماً. وهو أمر لا يعني قطيعة سعودية - أميركية، لكنه يعني بدقة العودة إلى علاقات المصالح فقط بل قد تصل إلى علاقة مقاومة المشاريع التي لا تصب في المصالح الوطنية السعودية الكبرى. وهو ما بدا جلياً في قراءة استباقية تجلت في القفز السعودي البارع نحو فرنسا، وحتى قبل سقوط الجسر، لتكون حليفاً مستقبلياً ممتازاً يحقق المصالح السعودية ويحميها ويصطف معها. ولنعد قليلاً إلى الاستثمار السعودي الطويل في البيت السياسي الفرنسي لأكثر من 50 عاماً، لنجد أن الملوك السعوديين بنوا علاقات ثقة ممتازة مع «الإليزية» وساكنيه. لكن لماذا جاء الاختيار فرنسياً هذه المرة؟ أولاً، فرنسا هي من إحدى الدول الخمس الكبار دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما يعني الوقوف مع المملكة في أي قضايا تمس المصالح السعودية أو العربية التي تتبناها المملكة. ثانياً، أكدت فرنسا طوال تاريخها الحديث أنها دولة مستقلة عن النفوذ الأميركي، بل وقاومته في كثير من مواقفه، وانتقدت كثيراً من تصرفاته الطائشة. ثالثاً، فرنسا وإن كانت لا تبدو كقوة عسكرية جبارة، إلا أنها قوة سريعة الحركة، ومرنة جداً في اتخاذ خطوات مبادرة، وما حدث من تحرك فرنسي ضد القذافي من دون انتظار لقرار من مجلس الأمن الذي صدر متأخراً، وكذلك التحرك في مالي للقضاء على الجماعات الإرهابية هناك إلا مثالاً آخر على أن الفرنسيين أكثر رشاقة من الفيل الأميركي. رابعاً، الفرنسيون أقل كلفة في تحركهم السياسي أو العسكري بل ونتائجهم تبدو ممتازة على الأرض. خامساً، يضاف إلى ذلك أن الفرنسيين يستطيعون بنفوذهم الكبير في الاتحاد الأوربي إيقاف وترشيد كل ما يهدد العلاقات السعودية أو العربية - الأوروبية. سادساً، السعودية لم تخرج من الفضاء الغربي الذي تجده الأقرب إلى مصالحها المتعاظمة وبنيتها الاقتصادية والعسكرية، وهو ما يضمن الاستمرار، ولا يدفع نحو القطيعة. سابعاً، كان تبني فرنسا للموقف السعودي من الأزمة المصرية تدشيناً لذلك التحالف الكبير المقبل بين قوتين كبيرتين، سيكون لهما كلمتهما السياسية والاقتصادية والعسكرية المؤثرة في مستقبل الأيام.