أهم ما يحتاج له كاتب الرأي هو الاستقلالية والحماية.. والأنظمة التي تكفل ذلك سيتحسن تطبيقها مع وجود جمعية مستقلة للكتاب تمثلهم.. فقبل أيام انعقد الاجتماع التأسيسي للجمعية السعودية لكتاب الرأي، ونوقشت اللائحة الأساسية ثم جرى التصويت لاختيار أعضاء مجلس الإدارة. حضر الاجتماع نحو خمسين عضواً من أصل سبعين. وكان أكثر ما أزعج المناقشين هي المادة السابعة التي صنفت العضوية إلى فئات (أ، ب، ج) حسب عدد المشاركات الكتابية، وأعطت حقوقاً متفاوتة وفقاً لدرجات التصنيف، لذا عمل تصويت على هذه المادة وحصل شبه إجماع على إلغائها. كذلك نوقشت العلاقة "الحميمة" بين الجمعية ووزارة الثقافة والإعلام، حيث طرح الكاتب صالح الشيحي أهمية استقلالية الجمعية عن الحكومة التي ستدعم الجمعية، لأن الدعم سيؤدي إلى عدم الاستقلالية، لكن رئيس اللجنة التأسيسية للجمعية الأستاذ علي الشدي (الذي حصل على أعلى نسبة بالتصويت) أكد أن الوزارة لم ولن تتدخل، ومؤكداً أن الجمعية لن تتدخل في كتابة أي عضو من أعضائها. ولعل مسألة الاستقلالية هي أكثر ما يؤرق أعضاء أية جمعية مدنية تعاني من الضعف المادي وتتلقى الدعم الأساسي من الجهة الحكومية التي وافقت على إنشائها وستدعمها بالأرض والمقر والأجهزة والتسهيلات الأخرى.. المعضلة هنا أننا أمام خيارين أحلاهما مر.. قبول الدعم أو عدمه من الوزارة؟.. فالضعف المادي سيؤثر بحدة على عمل الجمعية، فهي تحتاج لدعم الوزارة، لكن هذا سيؤثر في استقلاليتها، فبدون الاستقلالية ستتحول المؤسسة من مدنية إلى حكومية، وينتفي أهم سبب لوجودها. هناك مشكلة أخرى واجهتها أغلب الجمعيات السعودية وهي ضعف تمثيلها للمستهدفين، ومن المتوقع أن تواجهها هذه الجمعية حسب انخفاض عدد المنضمين للجمعية، فسبعين عضواً هو أقل من الحد الأدنى المأمول، فعدد كتاب الرأي يفوق ذلك بأضعاف. أضف إلى ذلك شبه انعدام لحضور رموز تيارات الرأي الفكري بالسعودية! مما يعني مقدماً ضعف تمثيل هذه الجمعية لكُتّاب الرأي. جميع الأصدقاء الكُتّاب الذين دعوتهم للانضمام إلى الجمعية لم ينضم منهم أحد! أغلبهم استبق الأحداث معتبراً الجمعية جهة رسمية شرفية لا جدوى من الانضمام إليها وفي بالهم تجارب مماثلة مثل هيئة الصحفيين وجمعية الناشرين ومجلس إدارات الأندية الأدبية المنتخبة.. ولم تفلح محاولة إقناعهم أن الجمعية بذرة أولية للتأسيس وأن الأخطاء هي مسألة طبيعية للتطور.. أظن أن أغلبهم يبرر كسله أكثر من إحباطه. هناك أصلاً مشكلة عالمية في تشظي مؤسسات المجتمع المدني بسبب الإنترنت الذي صار يشكل مجموعات افتراضية بديلة عابرة للحدود والرسميات.. فكثير من مؤسسات المجتمع المدني أصبحت تعاني من عزوف أعضائها واكتفائهم بالتواصل والتكاتف عبر الإنترنت بطرق مختلفة عن الأسلوب المؤسسي التقليدي، فضلاً عن أولئك الذين اكتفوا بمواقع التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك. وذلك ولَّد كسلاً في المشاركة الحضورية حتى للأعضاء بتلك المؤسسات، كما يمكن ملاحظته في جمعية كتّاب الرأي، رغم أن هناك ناشطين أدوا جهداً دؤوباً لتأسيس الجمعية كالكُتاب: عبدالله القفاري، عبدالعزيز السويد، خالد السليمان، محمد الأحيدب. وبغض النظر عن المشكلة العالمية فهناك مشكلة عامة تعانيها مؤسسات المجتمع المدني العربية، وهي الاستقلالية ونشاط الأعضاء تؤديان إلى عدم الثقة في جدوى المؤسسة. سبق أن طرح الباحث شون يوم (Sean Yom) من جامعة هارفرد في دراسة بعنوان "المجتمع المدني والدمقرطة في العالم العربي"، سببين رئيسيين لضعف مؤسسات المجتمع المدني عربياً: الأول هو أن مؤسسات المجتمع المدني لم تحشد جمهوراً كافياً من الأنصار داخل المجتمع فهي ضيقة الانتشار. فأكبر منظمات المجتمع المدني تعاني من لا مبالاة بين أعضائها. ففي مصر مثلاً نجد أن انتخابات نقابات العمال نادراً ما يشارك بها أكثر من 10-15% من الناخبين.. إنها أزمة ثقة. السبب الثاني هو عدم وجود رابطة توحد بين تلك المؤسسات، بل على العكس فكثيراً ما يشوب هذه العلاقة الارتياب. لذا كان من توصيات المؤتمر السعودي الثاني للتطوع المطالبة بقيام جمعية وطنية سعودية للخدمات التطوعية تسهم في تطوير العمل التطوعي في المملكة تخطيطاً وتأهيلاً وتدريباً ويفتح لها فروع في مختلف المناطق وتنسق مع الجهات العاملة في الخدمات التطوعية بمختلف مجالاتها. في كل الأحوال فإن أهم معيار لأي جمعية هو الأداء العملي الوظيفي.. وفعالية هذا الأداء تعتمد على مجال الصلاحيات وسقف الحرية المتاح للجمعية وليس مجرد إقرارها أو إنشائها. هذه الوظيفة للجمعية تتحقق في ظل دور تكاملي مع الجهات الرسمية، وهو دور يجعلها موازية في نطاق اختصاصها للوزارة وليس تابعاً لها، وإنما دور يحقق التوازن مع سلطة الحكومة في إطار من التكامل والتعاون على تحقيق كل ما هو خير ومنفعة عامة للمجتمع. إن التأكيد على أن لمثل تلك الجمعيات دوراً تكاملياً مع الجهات الرسمية وليس تصادمياً، يعني أن على الجهات الرسمية المرونة في السماح بمزيد من الصلاحيات لتلك المؤسسات ضمن نطاقها الوظيفي المعلن وعدم التشدد في سقف تلك الصلاحيات أو التضييق عليها.. من كل ما تقدم فالجمعية هي مؤسسة مدنية ثقافية للكتاب غير ربحية تعمل في ميدانها باستقلال نسبي عن سلطة الدولة، متبنية أهدافاً نقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها والارتفاع بمستوى المهنة، ومشتملة على أغراض فكرية وثقافية تهدف إلى نشر الوعي وفقاً لما هو مرسوم ضمن برنامج الجمعية وليس برنامج الوزارة أو برنامج المشيخات الثقافية. وتلك المشيخات هي -في تقديري- أحد أكبر التحديات التي ستواجه هذه الجمعية الوليدة في مجتمعنا.. إنها مشكلة قيمية في مجتمعنا؛ وأقصد بها منظومة القيم الثقافية وما يتبعها من فهمنا قانونياً ومؤسسياً للجمعيات والمؤسسات المدنية. بعضنا لا يتصوّرها كمؤسسة مدنية بل يتصوّرها مجموعة أفراد نافذين على الطريقة الاجتماعية القديمة، مثل زعماء القبائل أو كبار التجار أو المحظيين لدى الحكومة.. ومن ثم تتأثر طريقة تعاملنا معها، وطريقة فهمها لنفسها وتطبيقها لأعمالها. إذا كان المثقفون والحقوقيون والناشطون طالبوا بمؤسسات مدنية مستقلة تحمي الحقوق، فقد منحتهم الدولة ذلك بمؤسسات عديدة، وتحوّل الأمر إلى استحقاق اجتماعي مدني.. فماذا فعلنا نحن بهذا الاستحقاق؟.. الإجابة على هذا السؤال ليست مشجعة، إذا كان أغلبنا يستصعب مجرد الحضور للمشاركة!.