ثمة شعور باليأس في موضوع مؤسسات المجتمع المدني، أتوقع أنه نتيجة التطبيقات المتواضعة، ولعل هيئة الصحفيين خير مثال حيث فرحنا بها كمدافع لحقوق الصحفيين وكمؤسسة لرفع مستوى المهنة، لكن الحماس هبط في البداية ثم نسيت الغالبية أنها موجودة إلا كدعابة في مجالس المثقفين! إضافة لانتظارنا الذي طال لإصدار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي صادق عليه مجلس الشورى منذ خمس سنوات، وكتب عنه كثيراً حتى فقدنا الأمل. لكن الناشط خالد الوابل أنعش آمالنا بطرحه مبادرة لتأسيس جمعية أهلية لمكافحة الفساد أطلقها عقب لقاء رئيس هيئة مكافحة الفساد عن دور مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة الفساد على القناة الأولى، حين كتب الوابل على حساب الهيئة في تويتر يسأله عن هذه المؤسسات فجاءه الرد: الدعوة موجهة إليك ولمن هم مثلك من الناشطين باقتراح أي مؤسسة أو جمعية يرونها. تم تلقي مبادرة الوابل بنقاش غامر وقيِّم في تويتر، لكنه عصف ذهني متناثر يحتاج جمع وفرز وترتيب للاستفادة منه في الجانب العملي وابتكار آليات تطبيقية قابلة للتنفيذ بما يناسب الظروف الاجتماعية السعودية، فالمؤسسات الأهلية الموجودة تشكو من ضعف فاعليتها. لا أقصد هنا برنامج عملها الروتيني وهيكلها الوظيفي فتلك مهمة تقنية متوفرة، إنما العمل بفاعلية والتفاعل مع قضايا المجتمع التي تختص بها الجمعية. ومن واقع تجربتي في العمل بمجلس إدارة بضع جمعيات، إضافة لملاحظتي لتجارب الآخرين، وصلت إلى استنتاج بأن أكثر ما نحتاج التركيز عليه هو الانضباط التنظيمي وروح العمل الجماعية. فكثير منا يعتقد أن عمله في تلك الجمعيات لا يستحق الأولوية في نشاطاته بل هو “فزعة" ونشاط ثانوي خاصة إذا كان العمل تطوعياً وليس نقابياً. فالعمل التطوعي لا يتضمن الدفاع عن حقوق أعضاء المهنة، بل الدفاع عن حقوق الآخرين والمجتمع. مفهوم الفزعة التي يقوم بها “النشمي" ومفهوم التطوع التي يقوم بها الناشط ينطلقان من ذات الشعور الإنساني النبيل والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، لكنهما يختلفان في آلية التطبيق فالثانية تتطلب تنظيماً عملياً وانضباطاً إدرايا. ولأن العمل التطوعي غالباً يكون مجانياً، فقد يتولد شعور لدى المتطوع بإمكانية العمل بقليل من الجدية أو حسب “مزاجه"، وقد يعمل وفقاً لآرائه الشخصية واجتهاداته الفردية دون الانضباط بنظام الجمعية أو الالتزام بروح العمل الجماعي. لذا كان من توصيات المؤتمر السعودي الثاني للتطوع المطالبة بقيام جمعية وطنية سعودية للخدمات التطوعية لتطوير العمل التطوعي تخطيطاً وتأهيلاً وتدريباً ويفتح لها فروع في مختلف المناطق وتنسق مع الجهات العاملة في الخدمات التطوعية بمختلف مجالاتها. وإذا كانت عمل جمعية عادية هو مهمة صعبة في مجتمع لم يعتد على العمل المدني المؤسسي فإن مهمة جمعية لمكافحة الفساد ستكون ضخمة وعسيرة ومتشعبة؛ فكما ذكر د. عبد الحكيم الشرجبي (جامعة صنعاء) بأن مشكلة الفساد ليست حصرية بموظفي الأجهزة الحكومية، وحدهم بل تمتد إلى جميع قطاعات الدولة والمجتمع، ولم تكن نتيجة لاختلالات قانونية وقضائية وضبطية فحسب، وإنما هي قيمية، فهي جميعاً وليدة النظام الاجتماعي، في ثقافته، وفي نظامه الاقتصادي والتعليمي.. لذا نحن بحاجة ماسة لوجود عدد من الجمعيات لمكافحة الفساد وليست واحدة.. جمعية للمراقبة والرصد، وثانية للدراسات والمسوح والإحصاءات، وثالثة للاستشارات القانونية، وأخرى للتوعية وطرق التبليغ عن الفساد ..الخ. وبعد إقرار مثل تلك الجمعيات يأتي علاقتها مع الجهات الحكومية، خاصة هيئة مكافحة الفساد، فالأخيرة مطالبة بتسهيل وتأمين وصول الجمعيات للمعلومات ومنحها الصلاحيات المطلوبة وتوفير الحماية لها، إضافة إلى أن الجهات الرسمية الأخرى مطالبة بالشفافية. بالمقابل، في مسألة خطرة مثل تلك، مطلوب من الجمعيات التزامها بالمهنية واحترام حدودها الوظيفية والتزامها بالتشريعات وما قد يتطلبه بعض القضايا من سرية، والتأكد من دقة المعلومات ودعمها بالأدلة الدامغة وعدم انسياقها مع الإثارة الصحفية والاندفاع الشعبوي المزدهر بالإنترنت. وهنا، من المهم أن نعرف حدود وظيفة هذه الجمعيات قبل أن تجنح طموحاتنا فنصاب بالخيبة، فهي لا تملك سلطة تحقيق أو حكم، بل سلطتها من مسماها “جمعية"، اجتماعية تؤثر في الرأي العام وترفع للجهات المختصة نتائج المتابعة والرصد، المسوح، الأبحاث، الاستشارات والمقترحات.. وقبل الختام، من المهم التذكير أن مؤسسات المجتمع المدني (أو صدور نظام المؤسسات) لن يقوم بدوره بإصلاح الوضع الذي تختص به المؤسسة بمجرد وجودها كمؤسسات رغم أنها تعد أحد متطلبات الإصلاح؛ فكما ذكرت هوغيت لابيل، رئيسة منظمة الشفافية الدولية (اتحاد عالمي ضد الفساد): “قبل الربيع العربي، كان التضييق على المجتمع المدني أحد الأسباب الرئيسية التي سمحت بالمحسوبية والفساد لتستفحل لتلك الدرجة. لكن هذه المشاكل لن تتلاشى بمجرد وجود مؤسسات المجتمع المدني." بل قبل ذلك، تشير الدراسات أنه خلال عقدين ازدهرت مؤسسات المجتمع المدني بالعالم العربي، وقفز عددها لأضعاف مضاعفة كما في البحرين واليمن، وإلى ثلاثة أضعاف بلبنان، والضعف بالسعودية والكويت، ورغم ذلك لم تزد معه استقلالية الحياة المدنية، بل زاد تدخل الدول.. لماذا؟ هناك سببان رئيسيان، حسب دراسة “المجتمع المدني والدمقرطة بالعالم العربي" (جامعة هارفرد): الأول هو أن مؤسسات المجتمع المدني لم تحشد جمهوراً كافياً من الأنصار داخل المجتمع، فهي محدودة الانتشار. فأكبر مؤسسات المجتمع المدني تعاني من لا مبالاة واسعة النطاق بين أعضائها. ففي مصر مثلاً نجد أن انتخابات نقابات العمال لا يشارك بها أكثر من 15% من الناخبين.. ثمة انعدام ثقة لدى الجمهور، فأغلب تلك المؤسسات هي أصلاً غير ديمقراطية في إدارتها الداخلية. السبب الثاني هو عدم وجود رابطة توحد بين تلك المؤسسات، بل على العكس يشوب علاقاتها الارتياب. وحسب الدراسة فإن التوسع الأخير للقطاع المدني المؤسسي هو عمل إستراتيجي من قبل الحكومات وليس القطاع المدني، حيث تسمح تلك الأنظمة بحرية مقيدة تنفيسية تحكم بها الدولة مزيداً من السيطرة على الحياة المدنية وليس مزيداً من الاستقلالية للمجتمع المدني. وأخيراً، في النقاش هذه الأيام حول الجمعية لمكافحة الفساد يحصر كثيرون فعاليتها بالصلاحيات التي ستمنحها لها الحكومة، ورغم وجاهة ذلك إلا أنني أظن أن الضبط في التنظيم والعمل بروح جماعية هما أهم العوامل المؤثرة.