هل الموضوع هو قيادة المرأة للسيارة؟ لا. هذا أمرٌ لا أريد مناقشته، فرأيي منشور في مقالٍ قديم. سأستعرض موضوعا أراه أخطر، ويكشف عن مفاهيمنا ومقاصدنا واستعمالنا للغة، واهتزاز مبنى المعاني، وتضاؤل التسبيب المنطقي، ليتحول إلى آلية كلامية يكون فيها الكلامُ مرسلا، و"القول" فيها قليلا، وأحيانا.. معدوما. إنه يفصح عن طبيعة عقل، وأرجو ألا يُسبغ عليه صفة الجماعية، شديد الاحتداد فيوفر مناخَ الكرهِ والتعدّي باللفظ بصفات تخلّ بأهم ما يميز الإنسان لتبقى له كرامة الإنسان. وفي رأيي، وما أفهمه مما تعلمته وأتعلمه كل يوم بمقتضيات الشرع، وتعليمات ديني الإسلام الذي هو أعلى نظام على الأرض بلا منازع لأنه لم يأتِ من الأرض، هو الربط الأخلاقي الإنساني بقيمة الإنسان ذاته. إن من يقول شيئاً يسفِّه به إنسانا آخر، إنما هو ينقص من نفسه وهو يحاول أن ينقص من ذاك الآخر. تدل التجارب الأنثروبولوجية اللغوية على أن المجتمعات تتطور بحسن استخدام أهم أداة اكتشفها البشر، الكلمة. لا تصدق من يقول لك إن الصمتَ من ذهب، بل الكلام في محله ومعناه هو الذهب. وهل هناك على الأرض وفي سيّارات السماءِ وأجرام الفضاءِ ما يساوي حبّة خردل من كلمة قرآنية؟ نقلتْ كلماتُ اللهِ أمَماً وشعوباً إلى محافل الأنوار، وانتشلتهم من مهاوي التيه والظلام. أسهل دين في العالم للاقتناع به هو الإسلام، لست من يقول هذا، بل برنارد لويس اليهودي الدين البريطاني الجنسية، الذي يعتبره الغرب أكبر حجة في علوم الإسلام. أوسكار وايلد، وهو عابث لا ديني، كانت له صولات وجولات مع الملكة فكتوريا المحافظة بسبب تفسخه، قال: "لا أجد أعظم من "دين محمد" نقلا عنه فكيف تكون الكلمة هي مفتاح كل سعادة يعرفها الإنسان.."، وهزّ "أوسكار" اعتناءَ الإسلام بمخارج اللفظ، حتى أن "هيوليت بارد" الكنسي الأبوي يقول: "لو كان لنا عظمة إدارة الكلمة التي عند المسلمين لما وقف في وجه المسيحية أحد"، ويكرر ما قاله العباس بن عبد المطلب لما سُئل من أكبر سنا هو أم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتحرج العباس أن يقول أنا أكبر من النبي وأنظر كيف تكون الكلمة قولا، وللقول معنى عميق، والعمق يغير الحالة، ويعيد تركيب الوجدان عند المسلمين، فإذا هو يرد ذاك الرد المُبهر، وأبهر الكهنوتي المسيحي، بقوله: "هو أي النبي صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا وُلدت قبله!". احترامنا للكلمة هو ما يحلِّق بنا في معارج الانتماء والنمو الإنساني، وتسفيهنا للكلمة واستخدامها لتحمل غلا أو شتما أو انتقادا عنيفا هو ما يطيح بأي تجربةٍ إنسانيةٍ حضاريةٍ. كلمةٌ تأخذ إلى النار، وكلمة تأخذ إلى الجنّة. ولا شك أن الأخلاق ترتبط باللغة، بل اللغة أي مجموعة الكلام المقال في حينه، وفيما يبقى بعد حينه ارتباطها عضوي لا ينفصم، فالكلام هو رسول أو سفير الأخلاق. إن أي كلمة سيئة تخرج من لسانك، حتى وإن اعتقدتَ بها حقا، إنما هي تدل على سلوكك بتطابقٍ كوني حتمي كما أراده خالق الكون. وهناك أيضا حقيقة لا بد من إدراكها بوعي كامل: أننا سواء كنا بإزاء مناجاة، أو حوار ومناقشة، أو مرافعة، أو شهادة، أو أي صورة من صور الكلام، فإنها قد تقرر مصير غيرنا، وأحيانا مصيرنا نحن. كله يتحقق نفعا أو ضررا من خلال هذا العالم اللغوي الذي ننفذ إليه، فإما نعرف اتجاهات طرقاته، وإما نضيع في غياهبه. بدأت سيدات يخرجن بسياراتهن وأنا لست مع الخروج عن النظام، أو علينا أن نفهم المسوغات وأيضا ليس موضوعي، والموضوع هو ما قرأته عن فتاةٍ خرجت مع أبيها، ولو سألتني هي أو أبوها لما شجّعتهما على الخروج، لكن كل هذا اختفى من فرط الروع الذي أصابني من هول الكلام الذي وُصِمَت به الفتاةُ مع أبيها.. إن كان لهما سلوك لم يعجبنا، فعلى ماذا يدل هذا السباب والخروج عن حسن الدعوة والنصح؟ ألا يدل على سلوكٍ مليءٍ بالغضب والكره؟ هل نحن كذلك؟ هل نرضى بذلك؟ لا أظن. هل نحن من أهل الموعظة الحسنة؟ نعم أنا متأكد من ذلك. المشكلة أحيانا لا تكون في المسألة ذاتها، بل في عواقب سوء التعامل معها!