من سمات المجتمع المتحضر أن يتخذ الإنسان الموقف الذي يراه حقاً، لكنه لا يتجاوز بعد ذلك أدب الاختلاف، وقد ساند بعضهم الهيئة في قضيتها الأخيرة، لكن بعضاً منهم تمادى في مساندته إلى حد اتهام المخالفين له في الرأي بالنفاق، وفي ذلك يكمن بعض الخلل في قضية المنكر من وجهة نظر الهيئة، وذلك حين يصبح الرأي الآخر منكراً يجب النهي عنه مهما كلف الأمر، لكن آخرون يثيرن أسئلة تستحق الاهتمام، مثل أوجه الاختلاف بين الهيئة وأجهزة المرور والشرطة. اختلاف الموقف من الهيئة وبين أجهزة المرور ومكافحة المخدرات والشرطة على سبيل المثال، أن أنظمة المرور والشرطة ومكافحة المخدرات واضحة للمجتمع، وتركز على قوانين وأنظمة بينة للجميع، فعلى سبيل المثال تُطبق المخالفة المرورية على الذي يتجاوز السرعة القانونية أو لا يتوقف عند الإشارة الحمراء، كما تعمل هيئة مكافحة المخدرات بناء علي أنظمة تحظر استعمال أو المتاجرة بالمخدرات وفق تشريعات واضحة، لكن في أنظمة هيئة الأمر بالمعروف والمنكر يُختزل الأمر جله في فهم الشخص المكلف بالنهي عن المنكر.. فمنهم من يقضي معظم وقته في طمس الصور في الميادين والشوارع، ويداوم آخر في مراقبة الصيدليات ومحلات العطور لطمس صور النساء على علب المستحضرات التجميلية والطبية، ومنهم من يلاحق الورود الحمراء ويطارد النساء في عباءتهن وألوانها، بينما يطارد آخرون من يستمع للموسيقى في سيارته، ومنهم من ينتظر بالقرب من أبواب المحلات التجارية والمطاعم وقت الأذان، وإذا تأخر عن الإغلاق لدقائق اقتادوه إلى المركز، ومنهم من يحرص على إيقاف بعض السيارات التي يصطحب فيها رجل امرأة، ثم امتحانهما بأسئلة في غاية الخصوصية لإثبات صلة العلاقة، وفي ذلك تبرز الإشكالية التاريخية في أين تقع حدود المنكر؟، وهو ما هي المنكرات التي تفرض على رجل الهيئة ملاحقة ومطاردة الناس في الشوارع وحياتهن الخاصة؟. وهو ما يطرح السؤال التالي، هل المعاصي من المنكرات، وهل المعاصي الشخصية إذا أقدم عليها بالغ تدخل في المنكر، وهل تجوز مطاردته في حياته الخاصة والعامة، إذا لم يدع إلى ممارستها أو المتاجرة بها، أم أن المنكر هو الفساد العام بمفاهيمه العصرية التي تؤدي لهلاك المجتمع، ولكن كيف يكون إنكاره، وهل من الأنسب أن نستخدم وسائل أكثر تحضراً مثل المجالس النيابية وقانون حرية التعبير بدلاً من الأسلوب الفوضوي الذي يقتحم خصوصية البشر بدون أمر قضائي في بعض الأحيان، والذي يخالف بديهيات القوانين العصرية. يقول الفقهاء لا إنكار فى المختلف فيه، ومع ذلك يختلف الناس في فهم هذه المقولة من مجتمع إلى آخر، وما هو المختلف عليه الذي يجب أن يتوقف عنده الناهي عن المنكر، وقد واجهنا في هذا العصر متغيرات كبرى في الوسائل والمفاهيم الحديثة، وتم مواجهة أغلبها إن لم يكن جلها على أنها منكر يجب مطاردته، من الميكروفون إلى جهاز استقبال القنوات الفضائية، مروراً بمختلف أنواع العباءات والمظاهر الشخصية في الحياة العامة، وقد كان التحديث في عقود مضت يدخل في المنكر، مما أحدث فوضى غير خلاقة، بل مدمرة للروابط الاجتماعية. للإمام الغزالي مقولة تستحق التوقف عندها، (نقول المنكر ولا نقول المعصية لأن المنكر أعم وأشمل من المعصية)، وعلى سبيل المثال إذا ارتكب صبي شيئاً لا يجوز فهي منكر يجب النهي عنه، لأن المعصية لا ترتكب إلا من بالغ عاقل، وذلك هو على وجه التحديد ما توصل إليه الإنسان بعد ألف عام في الحضارة الغربية من مقولة الغزالي، حين فرق بين معصية البالغ ومعصية القاصر، وحين وضع حدوداً بينة للمنكرات التي تفسد حياة الناس، ثم جعل لها ضوابط وإجراءات يسلكها الناس لإنكارها أمام القضاء تحت مظلة القانون، ولم يترك الأمر مطلقاً للإنسان العامي في أن ينهى الناس بعصاه في الشوارع، لأن ذلك قد يؤدي إلى كوارث اجتماعية غير محمودة العواقب. ما نريد الوصول إليه في هذه العجالة أن الدولة اتخذت وسائل عصرية لتطوير عدد من الإدارات وإصدار أنظمة تؤطر عملها في مختلف المجالات، مثل نظام المرور، لكن في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُرك الأمر بإطلاق لسلطة أفراد الهيئة لتقرير ما هو المنكر، والذي يختلف من شخص إلى آخر، وقد تدخل فيه اختلاف التقاليد والاختلافات الفقهية وغيرها، مما يستدعي على وجه الضرورة أن يتم إصدار أنظمة واضحة تبين حدود حرية الإنسان وتمنع التدخل غير النظامي في حياته الشخصية، وقبل ذلك أن يتم احترام الحرية الشخصية للبالغين، ثم عدم انتهاكها من قبل أشخاص لا تحكمهم أنظمة واضحة للجميع.