لا أُريدُ أن يفهمَ البعضُ من العنوانِ أعلاه أني أقصدُ أن بعضَ الناسِ يكرهون الهيئة، بقدر ما أودُ تبيانَ الأسبابِ الداعيةِ إلى التقليلِ من أثرِها، مستيقناً أن أغلبَ الناسِ مع الهيئةِ ولا يريدون من أحدٍ أن يوجهَ لها نقداً سواء أكان هذا النقدُ حقاً أم باطلاً، لا لأن رجالَ الهيئةِ قد أدوا هذه الشعيرةَ على الوجهِ المطلوب، لكن لأن الناسَ قد جُبِلوا على تقديرِ كلِ ما هو مقدس، وفُطِروا على محبةِ المتدينين، ومن المؤسفِ أنهم لا يستطيعون الفصلَ بين الدينِ ورجالِه، فكل نقدٍ موجهٍ إلى رجالِ الدينِ هو في نظرهم موجهٌ إلى الدين، لذلك تجدُهم يدافعون عن رجالِ الهيئةِ بشدةٍ وينافحون عنهم بشراسة، وما من حادثةٍ يكون أحدُهم طرفاً فيها إلا وتجدهم يأتون بآياتٍ وأحاديث للتدليلِ على فضيلةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر! حيث لا يفرقون بين الحسبةِ كشعيرة ٍعظيمةٍ من شعائر المسلمين، وبين المحتسبين كبشرٍ يصيبون ويخطئون ويعدلون ويظلمون، فهم يعدّون كلَ ما يأتي به رجلُ الهيئةِ مقدساً، غير مدركين أنهم يهدمون من الدينِ بمقدارِ ما يبررون من تلك الممارساتِ الخاطئةِ المحسوبةِ على الدين، وأن النوايا الطيبةَ لا تبررُ العملَ الفاسد، وفي نظري أن المشكلةَ الكبرى في الهيئةِ أن عملَها ليس محدداً، وغالباً ما تتداخل في ذلك مع بقيةِ الأجهزةِ الحكوميةِ، حتى فقد المحتسبون هويتَهم وصار الناسُ لا يفرقون بين عملِ رجلِ الهيئةِ والعملِ الذي يمارسه الفردُ في بقيةِ الأجهزةِ الحكومية، كما استحوذوا على السلطتين التشريعيةِ والتنفيذية، فهم يحددون ما يجوز وما لا يجوز، وفي نفسِ الوقتِ يقومون بعملياتِ القبضِ والمداهمة. ففي الجمعةِ الماضيةِ وبعد حادثةِ أحدِ رجالِ الهيئةِ في الجنادرية، كان موضوعُ الخطبةِ عن الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر، وكان كلُ ما فيها دفاعاً عن هذا (الأسد) الذي اندفعَ محتسباً من غير أن تأخذَه في اللهِ لومة لائم! فكان الخطيبُ يتأسفُ على أن يُقتادَ هذا المحتسبُ بهذه الطريقةِ المهينةِ أمام الناسِ، لمجرد أنه أنكر علانيةً بدافعِ الغيرةِ على الدين، مستغرباً أن يحدثَ هذا المنكرُ في بلادِ الحرمين الشريفين، ولا أدري هل أفضليةُ هذا البلدِ خاصة بالمكانِ أم البشر، فما هو حرامٌ في السعوديةِ هو حرامٌ في غيرِها، وما هو حلالٌ في السعوديةِ هو حلالٌ في غيرِها، فلا أجدُ مبرراً لترديدِ هذا الكلام حتى لكأننا شعبُ اللهِ المختار. إنني بالقدرِ الذي ألومُ به المنظمين لأنهم سمحوا بما هو مخالف للأنظمة، فإني ألومُ رجلَ الهيئةِ لأن طريقتَه في الإنكارِ لم تكن مناسبة، ولا أُريد في هذا المقالِ أن أحكمَ له أو عليه، بقدر ما أودُ التأكيدَ على أهميةِ تحديدِ عملِ رجالِ الهيئةِ بشكلٍ دقيق، ولابد من إخضاعِهم لدوراتٍ تأهيليةٍ قبل ممارستِهم العمل الميداني، فمن المؤسفِ أن بعضَهم قد تم إنزالهم إلى الميدانِ مجردين من كلِ شيء عدا الحماس والعاطفة، فلا يعرفون مراحلَ الاحتسابِ ولا فيما يحتسبون ولا متى يحتسبون، حتى إنه ليحزن بعضُهم إن زالَ المنكرُ قبل قدومِه؛ محروماً لذة التشفي من صاحبِ المعصيةِ والتشهيرِ به! مع أنَّ الخليفةَ عثمان -رضي الله عنه- حين بلغه أن قوماً على فاحشةٍ أتاهم فلما وجدَهم متفرقين حَمدَ اللهَ وأعتقَ رقبة، فهذا -والله- هو الإخلاصُ الحقيقي، لا أن يبحثَ بعضُ الجهلةِ عن زيادةِ القضايا التي تضبطها الهيئةُ لتأكيدِ تفوقِها على بقيةِ الأجهزةِ الحكومية، ولا أن يتفقَ رجالُ الحسبةِ على أن يُعيدوا الاحتسابَ في نفسِ المكان الذي اعتقدوا أن صاحبَهم قد أُهين فيه، فأقلُ شروطِ الاحتسابِ معرفةُ أن المنكرَ لايُزالُ بمنكرٍ أعظم. إنني أعتقدُ أن خيرَ وسيلةٍ لأن تُعَادَ لهذه الشعيرةِ فضيلتُها، ويُعاَدَ لرجالِ الهيئةِ هيبتُهم ووقارُهم، أن يقتصرَ عملُ الهيئةِ على جانبِ النصحِ والوعظِ والإرشاد، وأن لا تُقحمَ نفسَها في قضايا القبضِ والتجسسِ والمطارداتِ والتغييرِ بالقوةِ، لأنَّ جهاتٍ أخرى تؤدي هذا الدور، فذلك أدعى في التأثيرِ وترسيخِ مبدأ القدوةِ الحسنة، فمن الخطأ اعتقادُ أن الناسَ يكرهون الهيئةَ لأنهم لا يريدون رقابةً دينية، أو أنَّ كلَ من انتقد أداءها حاقدٌ أو منافقٌ أو صاحبُ سوابق، كما اعتاد بعضُ الفضلاء ترديدَه على المنابر.